اللحظة العربية
من الفضاء الإلكتروني «مدونات»
آخر تحديث:
الجمعة 13 مارس 2020 - 11:45 ص
بتوقيت القاهرة
نشرت مدونة الديوان التابعة لمركز كارنيغى مقالا للكاتب مروان المعشَّر.. نعرض منه ما يلى:
أجرت إسرائيل ثلاث انتخابات برلمانية فى غضون السنة الماضية، وربما تكون الآن على عتبة انتخابات رابعة، واندفع معظم المحللين إلى التركيز على ما إذا كانت إسرائيل ستكون قادرة، غداة هذه الانتخابات الثلاثة، على تشكيل حكومة تستطيع ضمان 61 مقعدا فى الكنيست الإسرائيلى. لكن، هل هذا كل ما فى الأمر، وكل هو على المحك، خاصة إذا ما قاربنا هذه الانتخابات من منظور النزاع العربى ــ الإسرائيلى؟
يتعيّن القول هنا أنه فيما الانتخابات المتعاقبة لم تختلف كثيرا عن بعضها البعض، إلا أنها تقاسمت كلها سمات مشتركة تميط اللثام عن بروز تحوّل جذرى فى تاريخ هذا النزاع.
السمة الأولى هى أن الانتخابات دعّمت ما كان العديد من المحللين يشيرون إليه: إننا نعيش واقع الدولة الواحدة. أما حل الدولتين للنزاع الفلسطينى ــ الإسرائيلى، فهو لم يعد يحظى سوى بدعم حفنة من الأحزاب ذات الأغلبية اليهودية فى إسرائيل. وعلاوة على الأحزاب العربية، لا يوجد هذه الأيام إلا سبعة يهود أعضاء فى الكنيست يؤيدون بوضوح هذا الحل، وتبخّرت الأيام التى كانت فيها غالبية النواب الإسرائيليين يعربون عن مساندتهم القوية لدولتين إسرائيلية وفلسطينية تعيشان بسلام جنبا إلى جنب.
وهكذا، سواء شكّل رئيس الوزراء الإسرائيلى بنيامين نتنياهو أو منافسه الانتخابى بنى غانتس الحكومة، وسواء سيكون لإسرائيل حكومة وحدة وطنية أم لا، لن يكون لكل ذلك تأثير على النزاع. إذ إن أيا من هذين المرشحين لا يبدى جدّية حيال حل دولتين قابل للحياة، فيما المتغيرات الديمغرافية تجعل من «محصلة» الدولة الواحدة (وليس بالضرورة «حل» الدولة الواحدة) حقيقة صارخة على أرض الواقع. ثم: بغض النظر عما يفكر به أى طرف من أطراف النزاع، أو المجتمع الدولى، فإننا دخلنا بالفعل مرحلة ما بعد أنموذج اتفاقات أوسلو. وبالتالى، المسألة الآن لم تعد ما إذا كان حل الدولتين مُمكنا أم لا، بل أى طراز من الدولة الواحدة سيرى النور: هل ستكون نظام فصل عنصرى، أم دولة ديمقراطية، أم منزلة بين هاتين المنزلتين؟
***
الحصيلة الثانية للانتخابات الثلاثة هى الصعود المتواصل، وربما الدائم، للكتلة العربية فى الكنيست. فمنذ تأسيس دولة إسرائيل العام 1948، كان المواطنون العرب يتموجون بين الشعور بالحصار والتهميش والحيرة والبلبلة حول كونهم جزءا من النظام الإسرائيلى، وبين إحساسهم بالتمكّن تدريجيا، وإدراك مكامن قوتهم الخاصة، والتصميم على مكافحة التمييز العنصرى والتهميش، من خلال مواجهة النظام انطلاقا من القواعد نفسها التى وضعها هو.
صحيح أن إعلان «استقلال» إسرائيل العام 1948، ضَمنَ حقوق المواطنة الكاملة للعرب، إلا أن معظم الأحزاب الإسرائيلية اليوم تدعم جهارا وجود إسرائيل كـ«دولة ــ أمة للشعب اليهودى». وهذا يترك 20 فى المائة من سكان البلاد غير اليهود يتساءلون عما إذا ما كان بمستطاعهم الاندراج فى مثل هذا الإطار.
تبنّى القادة الإسرائيليون، من خلال الإصرار على دولة للشعب اليهودى فقط، موقفا عنصريا أسفر عن نتائج عكسية فى الانتخابات. فالعرب قرروا الرد، ووضعوا خلافاتهم جانبا، وخاضوا الانتخابات بعد توحيد الأحزاب الأربعة فى لائحة انتخابية واحدة. كما أدلى العرب بأصواتهم بأرقام قياسية وقلبوا مشاركتهم الانتخابية التى كانت ضعيفة لتقترب من مستوى المشاركة اليهودية، لا بل هم اجتذبوا أيضا دعما من بعض الناخبين اليهود. والحصيلة: 15 مقعدا فى الكنيست، ما جعل الكتلة العربية ثالث أكبر كتلة فى البرلمان الإسرائيلى، وبات من الصعب أكثر تشكيل أى حكومة إسرائيلية من دون الدعم العربى. من كان ليتوقع أن يحتل العرب فى إسرائيل اليوم أكثر من ضعف عدد المقاعد فى البرلمان من حزب العمل الذى كان يتزعمه ديفيد بن غوريون؟
لقد تغيّر الزمن. ففيما أصبح تطبيق حل الدولتين شبه مستحيل اليوم، يشهد النضال من أجل حقوق الفلسطينيين تطوّرا فى حد ذاته. فوفقا لتقرير صدر عن كارنيغى فى العام 2017 بعنوان «تجديد الهوية الوطنية الفلسطينية.. الخيارات مقابل الوقائع»، «ثمة مؤشرات على أن المقاربات التى تستهدف تأمين قدر أكبر من الحماية القانونية للحقوق الإنسانية والمدنية الفلسطينية قد ازدادت قوة فى صفوف المنظّرين السياسيين والناشطين الفلسطينيين، بما فى ذلك داخل إسرائيل». إذ يبدو أن أولويات الفلسطينيين تتحوّل من تحديد معالم أى حل محتمل ــ عبر حل الدولتين أو حل الدولة الواحدة ــ إلى مسألة ضمان حقوقهم.
هذه العملية تجرى أمام ناظرينا. فالمجتمع الدولى قادر على تحمّل الاحتلال طالما ثمة أمل بأن ينتهى الاحتلال وتُقام دولة فلسطينية. لكن فى حال كان هذا الأمل معدوما، لا يمكن أن يواصل المجتمع الدولى «رفض» إقامة دولة فلسطينية وتحقيق المساواة فى الحقوق. فهذا يعنى فقط أن نظام الفصل العنصرى (الأبارتايد) يحظى بدعم دولى.
نظرا إلى أن نفوذ ومصداقية السلطة الوطنية الفلسطينية يتراجعان باطّراد، وأن نفوذ عرب إسرائيل يتنامى، يبدو أن شعلة النضال من أجل حقوق الفلسطينيين قد انتقلت من الفلسطينيين الرازحين تحت الاحتلال إلى الفلسطينيين فى داخل إسرائيل. ثمة سياسيون من عرب إسرائيل، مثل أيمن عودة وأحمد الطيبى وهبة يزبك، يطلقون المعركة من أجل تحقيق المساواة فى الحقوق ويقفون ضد الصفاء الدينى والإثنى لإسرائيل بشكل فعّال أكثر من الشخصيات المنتمية إلى السلطة الوطنية الفلسطينية.
صحيحٌ أن هذه المعركة بعيدة جدّا عن تحقيق أهدافها، إلا أننا نشهد تحوّلا واضحا فى مسار هذا النضال، الذى قد يفضى إلى نتائج أفضل من المقاربات السابقة التى حاولت حل الصراع الفلسطينى ــ الإسرائيلى. فلا يمكن لإسرائيل أو العالم العربى تجاهل عرب إسرائيل بعد الآن.