المجدد الغزالى فى ذكراه
ناجح إبراهيم
آخر تحديث:
الجمعة 13 مارس 2020 - 9:40 م
بتوقيت القاهرة
دعا دوما إلى العفو قائلا «السكوت عن الإساءة ليس ضعفا وإنما هو علو بالذات عن سفهاء العقول، وتأمل قول عاد لنبيهم هود «إنا لنراك فى سفاهة» ورغم هذه الإساءة إلا أن رد هود كان: «قال يا قوْم ليْس بى سفاهة ولٰكنى رسول من رب الْعالمين».
وكان يفرق بين التدين الحقيقى والشكلى بقسوة القلب أو رقته فيقول: «وقد رأيت فى تجاربى أن الفرق بين تدين الشكل وتدين الموضوع هو قسوة القلب أو رقته».
وكان يعرف التدين الصحيح بقوله: «إن كل تدين يجافى العلم ويخاصم الفكر ويرفض عقد صلح شريف مع الحياة.. هو تدين فقد كل صلاحيته للبقاء».
ويربط الخلق بالحق بقوله: «لا تعش بعيدا عن الله وتطلب السعادة» ويقول: «ما أجمل أن تعطى وأنت تعلم أن المقابل ليس من الناس بل من رب الناس» ويقول أيضا: «ثق تماما بأن اليد الممتدة إلى الله لا تعود فارغة أبدا».
ويدعو الناس إلى السير إلى الله بالرجاء والرغبة أكثر من الرهبة: «لا أدرى لماذا لا يطير العباد إلى ربهم على أجنحة من الشوق بدل أن يساقوا إليه بسياط من الرهبة؟! إن الجهل بالله وبدينه هو علة هذا الشعور البارد، أو هذا الشعور النافر، بالتعبير الصحيح».
ويتحسر على حال المساجد فى عصره فكيف لو رآها فى عصرنا خاوية على عروشها إلا من كبار السن ومن لا عمل لهم: «ترى هل تعود المساجد يوما مصانع للرجال كما كانت قديما».
وكان يدعو إلى السماحة وسعة الصدر «يعجبنى أن يواجه الإنسان هذى الحياة وعلى شفتيه بسمة تترجم عن رحابة الصدر وسماحة الخلق وسعة الاحتمال، بسمة ترى فى الله عوضا عن كل فائت وفى لقائه المرتقب سلوى عن كل مفقود».
ويكرر المعنى الذى ساقه دوما علماء الإسلام أن الناس تسير إلى الله بقلوبها» طالما أن الله يعلم نيتك، لا تهتم لسوء نية الآخرين».
ويدعو للتفاؤل والابتسام «ابتسموا فنحن بفضل الله، نعيش وليس بفضل الآخرين، لا تجعل غيوم الماضى تغطى شمس الحاضر».
ويتحدث عن خذلان المسلمين للإسلام وتنفيرهم عنه فيقول: «الإسلام قضية ناجحة لكن محاميها فاشل» ويقول: «أكبر جريمة يرتكبها البعض التنفير عن الإسلام».
وفرّق بين الحب الكاذب والحقيقى بقوله: «ألا ما أرخص الحب إذا كان كلاما، وما أغلاه عندما يكون قدوة وذماما «أى عهدا».
كان يردد دائما «ما زلت أؤكد أن العمل الصعب هو تغيير الشعوب.. أما تغيير الحكومات فإنه يقع تلقائيا حينما تريد الشعوب ذلك».
ويقول: «الحياة المعاصرة لا تشكو من متوكلين لا يعملون وإنما تشكو من عاملين لا يتوكلون».
ويعرف السقوط والانهيار بقوله: «من السقوط أن يسخر المرء مواهبه من أجل غاية تافهة ويواجه التدين المغشوش»..«إن وجهى ليسود حينما أرى العمل يخرج من يد الكافر متقنا مجودا ويخرج من يد المسلم هزيلا مشوها».
ويهتف فى الدعاة فى الدول الأجنبية «إننا لسنا مكلفين بنقل تقاليد عبس وذبيان إلى أمريكا وأستراليا وأوروبا لكننا مكلفون بنقل الإسلام وحسب».
ويناشد القوميين العرب «هناك معادلة يجب أن يحفظها كل عربى عن ظهر قلب: عرب ــ إسلام = صفر».
ويحارب جمود الفكر وتعطل العقول صائحا: «لا أخشى على الإنسان الذى يفكر وإن ضل لأنه سيعود إلى الحق، ولكنى أخشى على الإنسان الذى لا يفكر وإن اهتدى، لأنه سيكون كالقشة فى مهب الريح».
ويستنكر تقديم أهل الثقة التافهين على أهل الكفاءة الذين لا سند لهم «الويل لأمة يقودها التافهون ويخزى فيها المخلصون والقادرون».
ويحارب الظلم الاجتماعى بقوله: «ظلم الأزواج للأزواج أعرق فى الإفساد وأعجل فى الإهلاك من ظلم الحكام لرعاياهم».
ويواجه الإلحاد هاتفا: «الإلحاد هو آفة نفسية وليس شبهة علمية».. ومعرفا للملحدين بالله الرحيم الرءوف الودود الغفور «البشر لن يجدوا أبر بهم ولا أحنى عليهم من الله عز وجل».
هكذا تكلم الشيخ محمد الغزالى.. وهكذا جرت الحكمة على لسانه.. وهكذا حارب على كل جبهات تخلف الأمة وحاول علاج كل أدوائها غير هياب.. وخاض المعركة تلو الأخرى متألقا ورائعا ومنصفا وجامعا فى خطابه بين الاتصال بالعصر والتفاعل معه.. والاغتراف من أصول الشريعة والعيش مع النص والمزج بينه وبين مقاصده الكلية.
وهكذا مرت ذكرى وفاة الشيخ الغزالى على مصر منذ عدة أيام فى صمت مريب فى الوقت الذى تقوم فيه الدنيا ولا تقعد فى ذكرى الراقصات أو التافهين والتافهات الذين لم يقدموا لأنفسهم ولا دينهم ولا وطنهم شيئا.
فالغزالى يعد أعظم المفكرين الإسلاميين، فقد ملأ الأرض علما وفكرا وسبقا لعصره وزمانه.. والذى لم يذكره الإعلام ولا الصحافة بكلمة واحدة أو مقال يتيم أو حتى عرض مبسط لفكره.. أو يحظى بالفتات من حظوظ الراقصات ولاعبى الكرة التى تملأ الشاشات.
أما الحركة الإسلامية فلم تقدره قدره ولم تقرر شيئا من كتبه على أبنائها فزادتهم ضياعا فوق ضياعهم.. ولم تستفد من فكره وعبقريته الدعوية أو تجعله من قاماتها الفكرية.. والرجل لم يجد نفسه فى جماعة الإخوان فانفصل عنها فأبدع وأفاد وملأ الدنيا كلها علما ودعوة.. فمعظم التنظيمات تقتل الفكر والمفكرين، حيث تريد أن تضعهم فى قالبها الضيق فإذا تركوها غردوا فى ساحات الدعوة الفسيحة.
أما الدولة المصرية فلم تعر الغزالى اهتماما.. فى الوقت الذى حصل فيه مع قلائل مصريين على جائزة فيصل العالمية.. وأصابه ما أصاب العقاد، رحمه الله، حينما لام على الحكومة فى الأربعينيات إهمالها لعلاجه فقال: «هل هناك أمة عاقلة تبخل على كاتب الشرق الأول بستين جنيها كأجر لجراحة فى عينه؟».
إن مما يؤسفنى أنه يراد للشباب المصرى أن يعرف عن الراقصات ولاعبى الكرة أكثر مما يعرف عن سعد زغلول ومصطفى النحاس ومكرم عبيد ومحمد عبده ومصطفى كامل ومحمد فريد والعقاد والمازنى والمراغى وعبدالحليم محمود والغزالى وحسنين مخلوف وغيرهم من الأعلام.. رحم الله هؤلاء جميعا.. ورحم الله الغزالى وكل من دافع عن الإسلام والأوطان.