«دين الخوف»
طلعت إسماعيل
آخر تحديث:
الإثنين 13 أبريل 2020 - 10:05 م
بتوقيت القاهرة
أظهرت الأيام الأخيرة أننا لا نحارب قاتلا خفيا اسمه فيروس كورونا فقط، ولكننا نواجه فى الوقت ذاته ميراثا من الجهل والتخلف المتراكم عبر عقود طويلة، يخلط أصحابه بين الخرافة والأوهام، ولا يقبلون بالحقائق العلمية التى سعى الإنسان للتوصل إليها عبر أجيال من الباحثين والعلماء، ورجال الفكر وصناع الحضارة.
تقول منظمة الصحة العالمية التى يتبع العالم كله ارشاداتها فى التعامل مع فيروس كورونا، إن جثث وفيات فيروس«كوفيدــ19» غير معدية ولا تنقل العدوى، فيتجمهر نفر من أهالى قرية شبرا البهو، بمحافظة الدقهلية، لمنع دفن جثمان الدكتورة سونيا عبدالعظيم، رحمها الله، بمقابر القرية فى مشهد مهين للمصريين جميعا.
ورغم محاولة الأجهزة الصحية إقناع أهالى القرية بالحقيقة العلمية وطمأنتهم، إلا أنهم كابروا وتجبروا فلم تنفع معهم إلا لغة الأمن الذى تولى تفريقهم، وفتح الطريق لمرور عربة الإسعاف التى تحمل جثمان الشهيدة التى لاقت ربها متأثرة بوباء لا ذنب لها فيه.
واقعة شبرا البهو لم تكن الوحيدة فى سجل مخز حاول فيه بعض قساة القلوب، ومن تملكهم الخوف بفعل الجهل، وربما بتحريض من قوى تحاول استغلال الموقف، منع دفن متوفين بمرض كورونا، فقد سبقتها واقعة مشابهة فى قرية بولس بمحافظة البحيرة، وأخرى فى بهتيم بالقليوبية عندما حاول أهل سيدة مسنة توفيت بالوباء دفنها فرفض البعض، فتوجهوا بجثمانها إلى بلدتها فى محافظة الغربية.
ما حدث فى هذه المحافظات على علاقة وثيقة أيضا بواقعة التنمر التى تعرضت لها الطبيبة الشابة فى حميات الاسماعيلية، عندما سعى جيرانها لإخراجها من مسكنها خشية نقلها للعدوى من المصابين بفيروس كورونا بحكم عملها، ناهيك عن عشرات الوقائع التى تنمر فيها قلة من الجهلاء بالمتعافين من المرض فى مناطق متفرقة من البلاد.
فض الأمن المتجمهرين فى شبرا البهو، وخيرا فعل، لكن المشهد المؤلم يكشف عن تغيير حاد فى عادات وتقاليد المصريين التى تحض على تكريم الميت بدفنه، وتقديم واجب العزاء لإظهار التعاطف مع أهله ومواساتهم فى مصابهم، ومنع الدفن أمر جلل سيحتاج لجهود لمحو أثره، ليس فى نفوس أقارب المتوفى وحدهم، ولكن فى الضمير الجمعى المصرى الذى تضرر بشدة.
بحثا عن إجابة علمية لسؤال: «ماذا حدث للمصريين؟»، الذى طرحه الدكتور جلال أمين ــ رحمه الله ــ فى كتاب شهير، تحدثت إلى عالم الاجتماع الكبير الدكتور شحاتة صيام، الذى يقول «إزاء سيكولوجية الأوبئة الناتجة عن الشعور بالخوف من تداعيات كورونا، لجأ الناس لتفعيل ميكانزمات خاصة للدفاع عن أنفسهم من خلال توليد الشك فى كل شىء، الأمر الذى ساهم فى تغيير أنماط العلاقة بين الأفراد فى العائلة، بل وتغيير ركائز العقل الجماعى للشعوب الموبوءة، ما أحدث تغييرات جذرية فى قيم وأفكار وأنماط الحياة الإنسانية».
الدكتور صيام يشير أيضا إلى أن الخوف من الأوبئة «أوجد ثورة فى التفسيرات المرتبطة بأسباب هذه المعاناة الجمعية جراء الوباء، وخلق موجة من التناقضات القيمية، وزيادة مساحة الاجتهادات الفردية والاجتماعية، والممارسات غير المنطقية، والتعلق بأى أمل فى الخلاص، وتحريك المشاعر والحاجات البدائية، وتصاعد وتيرة التدين، والزيادة فى ممارسة الشعائر الدينية، والوصفة الشعبية المرتبطة بالمعتقدات الشعبية، والارتباط بالقدرات الغيبية، الأمر الذى ساهم فى تأسيس ما نسميه بدين الخوف».
«دين القلق والخوف من الوباء» حسب عالم الاجتماع المرموق، والأستاذ بجامعة الفيوم، يقف وراء «زيادة الانقسامات والفرقة والعداوات بين السكان، وتعالى وتيرة الشائعات»، ومن هنا ساهم الخوف من كورونا «فى شيوع اضطراب تقدير الأفراد لأنفسهم، وهو ما دفع البعض إلى الاصرار على عدم استلام جثث ذويهم، أو منع دفنهم بمقابرهم، بحجة الخوف من انتقال الوباء إليهم وإلى مناطق سكنهم».
هذا ما وصلنا إليه ــ للأسف ــ على الرغم أننا نتشارك مع كل شعوب الأرض الخوف والقلق من الوباء، لكننا انفردنا بالتطاول على موتانا فى رحلة عودتهم إلى دار الحق، وهو ما لم يسبقنا إليه أحد. ندعو للموتى بالرحمة، والمصابين بسرعة الشفاء، وأن يحسن الله خاتمتنا جميعا.