تردد إبريل
تمارا الرفاعي
آخر تحديث:
الأربعاء 13 أبريل 2022 - 9:25 م
بتوقيت القاهرة
أعدت النظر فى طريقة تصنيف أولوياتى فى الأشهر الأخيرة. أجبرتنى محنة مررت بها أن أنظر إلى يومى وأسبوعى من الخارج وكأنهم أيام غيرى، حياة شخص أراقبه وأحاول أن أتعرف عليه من جديد. سمعت كثيرا ممن مروا بتجارب قاسية أنهم أيضا توقفوا للتفكير فى الخيارات ومقارنة مسارات كانت تبدو بديهية وفجأة لم تعد كذلك. فقدت كثيرا من اليقين فى الفترة الماضية، تساءلت عن أمور كنت أظنها من المسلمات. ترددت وانسحبت من الفضاء من حولى لأصبح مراقبة ولست لاعبة.
•••
جلست على كنبة وتوقفت عن الإدلاء بدلوى، قررت أن ألتصق بالحائط وأستمع وأنظر دون تدخل. هكذا مر الشتاء بغيومه وثقل مزاجه يلائم مزاجى. قررت أن أستخدم العدسة القريبة أو المكبرة لأرى تفاصيل يومية تغيب عنى بالعادة. مشيت فى فضاء أعيش فيه ولا ألاحظه مع عدسة مكبرة كمن يبحث عن دليل يساعده فى فك لغز فى قصة بوليسية. أوصدت بابى بالمفتاح وفتحت الشبابيك ونظرت من الداخل إلى الخارج.
•••
رأيت بداية شارب ابنى الأكبر وسمعت تغيير طبقة صوته: ها أنا ذا أراقب تحوله من طفل إلى شاب. أربكنى اكتشاف أننى أصبحت أما لمراهق. رأيت تردد ابنى الأوسط المستمر أمام الخيارات التى غالبا ما يتجاوزها بالفطرة، على عكس أخيه الأكبر الذى يحسب خطواته بدقة. تمعنت فى وجه ابنتى وهالنى الشبه بينها وبين أمى وجدتى وكأن خطا نسائيا يربطنا. انظر إلى زوجى فى محاولة منى أن أعيد تركيب قصتنا منذ التقينا لأول مرة فى القاهرة قبل سنوات. أزور القاهرة فى عقلى فأرى وجوها بدل أن أرى المدينة.
•••
هل أشتاق للقاهرة؟ هل أشتاق للأماكن عموما؟ أم ترانى أشتاق لأشخاص يسكنونها فتصبح المدينة هؤلاء الأشخاص؟ من مكانى على الكنبة أرانى مرتبطة بمن يسكن المدن التى أحبها، أى أننى أحب الأماكن على حسب من أحبهم فيها. لا أعرف إن كانت ستعنينى هذه المدن إن زرتها وغاب عنها من يربطنى بها. فى الأشهر الأخيرة ومن زاويتى قرب الحائط رأيت أننى سلحفاة تحمل بيتها على ظهرها وتسميه الوطن، إذ لا يهم أين أنصب الخيمة طالما أعيش فيها مع عائلتى يزورنى فيها الأصدقاء. قد أحن إلى ناصية أو حارة وتصلنى رائحة الخبز الطازج وأسمع نداء بائع الورد، فتشكل هذه كلها ومضات تدخل إلى قوقعتى وتتداخل فلا أعرف إن كانت فى دمشق أو القاهرة أو غيرها من المدن ولا يهم.
•••
جلسة حميمة مع أصدقاء فى زيارة إلى المدينة، نصف ساعة أذاكر فيها مع ابنتى المفردات والإملاء، مراجعة لجدول الضرب مع ابنى، ساعات لا تنتهى من المتعة فى المطبخ لأعيد اكتشاف وصفات قديمة، محطة راديو تسمى أغانى أدندنها «أغانى الزمن الجميل» وها أنا أحسب السنوات على أصابعى فلا تكفينى اليدان! هذا كله يحدث الآن، وأنا أعيد التفكير فى الأولويات، أتردد كما يتردد أبريل فى قصيدة محمود درويش، فتشرق الشمس يوما وتختفى خلف الغيوم فى اليوم التالى. هو تردد كما أتردد أنا هذه الفترة بين النور والظلام، أخرج من غرفة جلست فيها لساعات إلى شمس الربيع الخجولة، مترددة هى الأخرى لكنى أعرف، كما هو الحال كل سنة، أنها، أى الشمس، سوف تبسط أشعتها على العالم وعلى فتخرجنى إلى النور وألوان الربيع.
•••
رمضان وبداية الربيع، موسمان يثيران الشجن فتختلط على الذكريات، أرى زهر الليمون على أشجار الغوطة قرب دمشق، وأرى أيضا عائلة تجتمع حول مائدة الإفطار. اليوم لا نزهات فى الغوطة وموائد دمشق تشكو قلة الموارد، وكأن الحياة برمتها تتردد أمام السوريين. ألم يقل درويش أن على هذه الأرض ما يستحق الحياة؟ ها هو ربيع يتردد أمامى فيما أسأل نفسى إن كنت أعطى من أحب حقهم أم ترانى كنت على عجل طوال الوقت حتى اضطررت أن أقف لألتقط أنفاسى وها أنا أعيد النظر فيما حولى؟
•••
أعرف الآن أن على أن أتردد أيضا، على أن أبقى هنا مع من أحب، أن أصغى، أن أتأمل، أن أدقق فى التفاصيل اليومية التى يمكن أن توصف أنها صغيرة لكنها كالتطريز الفلسطينى قطب محبوكة تلون القماش، صوت صغيرتى وهى تضحك فى الصباح، رائحة القهوة، أوراق الشجرة تعود أمام شرفتى، طبق تركه ابنى على الطاولة مع ورقة امتحان يريدنى أن أوقعها، الغسيل على الحبل، صابون غسيل الأطباق بلونه الأحمر، ربع رغيف فيه قطعة من الجبن، الحياة تمر من هنا وها أنا أعيد ترتيب الأولويات وأقرر أن تردد نيسان سوف يقودنى إلى الربيع، أنا متأكدة، فهو يتردد كل سنة ثم تعود الحياة إلى زهر الليمون.