الأستاذ ناكمورا
أحمد عبدربه
آخر تحديث:
السبت 13 مايو 2023 - 8:15 م
بتوقيت القاهرة
فى عام ٢٠٠٣ انتقلت للإقامة فى طوكيو عاصمة اليابان فى رحلة طويلة استمرت ما يزيد قليلا على ٨ سنوات، درست خلالها اللغة اليابانية وحصلت على درجتى الماجستير والدكتوراه من جامعتين عريقتين فى بلاد الشمس المشرقة. كنت قد زرت اليابان مرتين قبل ذلك، مرة عام ٢٠٠٠ وكذلك مرة أخرى فى عام ٢٠٠١ فى برامج تبادل ثقافى وشبابى، كانتا كافيتين لاتخاذ قرارى بالتخصص فى السياسات الشرق آسيوية.
رغم درايتى باليابان إلا أن زيارة دولة والإقامة فى فنادقها الفاخرة كسائح وضيف معزز شىء والإقامة فيها بشكل طويل كمقيم ودارس يحتك بحياة شعبها اليومية شىء آخر تماما! بعد وصولى إلى اليابان فى ٢٠٠٣ وفى هذه السن الصغيرة شعرت أننى لن أتمكن من إكمال المغامرة وأننى سأعود حتما إلى القاهرة، فالحياة كانت صعبة وشعرت بالانهيار سريعا، فلا أنا قادر على تعلم اللغة التى بدت لى فى البداية مستحيلة ولا أنا حتى قادر على التركيز فى دروسى فى قسم العلوم السياسية بجامعة ميجى حيث بدا لى أن المنافسة مع الطلاب اليابانيين مستحيلة ولن تحسم لصالحى بأى شكل!
• • •
بعد أقل من شهر واحد كتبت لمنسقة البرنامج الذى كان يدعم دراستى ماديا، وهو برنامج تابع لوزارة الخارجية اليابانية، أخبرها بقرارى العودة إلى مصر والاعتذار عن البرنامج! اتصلت بى المنسقة فورا لتسألنى إن كان هناك مضايقة تعرضت لها أو سبب معين لهذا القرار، لكنى لم أتمكن من إمدادها بأى رد وجيه سوى أننى منهار نفسيا ولن أستطيع إكمال المشوار!
فى ذلك الحين كان المشرف على دراستى للماجستير هو الأستاذ أكيرا ناكمورا، وقتها كان أستاذا ورئيسا لقسم العلوم السياسية فى الجامعة، وكان يبدو لى مخيفا فهو شديد مع الطلبة وبدا لى للوهلة الأولى غير ودود وقاسٍ فى تعليقاته على الأداء الأكاديمى وغير متفهم لظروف الطلاب الأجانب! بعد قرارى هذا وجدت رسالة مختصرة من الأستاذ ناكمورا طلب منى مقابلته فى مكتبه فى اليوم التالى، فهمت قطعا أن هذا الاستدعاء له علاقة بقرارى واعتقدت أنه سيقوم بتوبيخى لأنى أضعت الفرصة على غيرى فى الحصول على هذا الدعم، ولكنى قررت مواجهته بقرارى وتحمل التوبيخ!
فى اليوم التالى، ذهبت إلى مكتبه فطلب منى الدخول وإغلاق باب الحجرة وسألنى عن سبب قرارى بالرحيل! شرحت لكنه لم يقتنع، ولكن وبدلا من توبيخى طلب منى بلطف التمهل قليلا فى اتخاذ القرار وطلب منى أن أكون أكثر تحملا لأنه من الطبيعى أن أشعر بالغربة، ولكن مع الوقت سأتأقلم!
اجتماع لم يستمر سوى ٥ أو ١٠ دقائق وخرجت منه أكثر إصرارا على الرحيل من هذه البلاد الغريبة، ولكنى وعدته بالتمهل لمدة أسبوع ثم أخبره بقرارى النهائى! قبل انتهاء الأسبوع بيوم أو اثنين وجدت رسالة أخرى منه على بريدى الإلكترونى يسألنى إن كنت متاحا لتناول القهوة أو العشاء فى إجازة نهاية الأسبوع فى منزله! شعرت بالإحراج الشديد من هذه الدعوة المفاجئة، وفهمت فيما بعد أن دعوة كهذه من أستاذ بهذا الحجم لطالب لم يتخطَ الثالثة والعشرين من عمره لزيارة منزله فيها الكثير من الكرم والاحتفاء غير المسبوق!
وقتها طبعا لم أدرك أهمية الدعوة، ولكنى قبلتها على الفور وذهبت إلى منزله فى إحدى ضواحى مدينة يوكوهاما اليابانية فوجدته وزوجته فى انتظارى ورأيت شخصا شديد الود والاحتفاء يعاملنى كابن أو حتى كحفيد، كجزء من العائلة! فى أحد أركان بيته وفى أجواء شديدة الهدوء أخذ يشرح لى قصته حينما ذهب كطالب فى عمرى تقريبا لدراسة العلوم السياسية فى إحدى جامعات كاليفورنيا المرموقة، وكيف أن هذا شكل تحديا كبيرا له ولكنه لم يستسلم واستمر رغم الصعوبات حتى نجح فى الحصول على شهادته عائدا بعد ١٠ سنوات تقريبا لليابان مرة أخرى!
شرح لى بهدوء أن هناك قرارات مصيرية قد نأخذها فى سن صغيرة بتسرع ثم نندم عليها للأبد طالبا منى المزيد من الصبر وعدم التسرع والتحمل، مؤكدا لى أننى سأتذكر كلماته هذه يوما ما وأعلم صحة موقفه! انصرفت بعد ساعة ونصف الساعة تقريبا من منزله وأنا أشعر بامتنان شديد لهذا الأستاذ الذى فتح لى بيته وقلبه هكذا بلا تحفظ ولا تردد رغم قصر معرفتى به وظل هذا الموقف الإنسانى لا يذهب من ذاكرتى أبدا حتى اليوم!
بعد هذا اللقاء أصبحت أكثر إصرارا على البقاء وتعددت لقاءاتنا بعد ذلك خارج قاعات المحاضرات، منها دعوته لى لقضاء يوم الكريسماس مع عائلته، وغيرها من المواقف الإنسانية الكثيرة التى أخذ ينصحنى فيها بكل حب وود كلما احتجت إلى النصيحة! نصحنى حينما أحببت وفشلت، ونصحنى حينما تعرضت لصدمة رفض نشر مقال أكاديمى لى فى جريدة أكاديمية يابانية كنت أود النشر العلمى فيها.
على مدى سنوات الماجستير الأستاذ ناكمورا بمثابة أب روحى لى ومشرف أكاديمى كما يجب أن يكون المشرف الأكاديمى بحق.
لم يكن يمل أبدا من إصلاح أخطاء الكتابة بالإنجليزية أو اليابانية، ولم يتأخر أبدا عن كتابة خطابات التوصية التى ساعدتنى فى حضور المؤتمرات داخل وخارج اليابان، كما سمحت لى فيما بعد بالالتحاق ببرنامج الدكتوراه فى كلية الحقوق بجامعة يابانية أخرى كان الالتحاق بها به الكثير من الصعوبات وخصوصا للأجانب!
لم تتوقف مساعدة الأستاذ ناكمورا غير المشروطة عند هذا الحد، ولكن بعد سنوات من التخرج والعمل فى جامعة القاهرة ثم فى جامعة دنفر ظل على تواصل معى ودعمى بكل الطرق وساعدنى كثيرا فى كل زياراتى إلى اليابان التى أخذت فيها طلابى لدراسة السياسة والثقافة فى طوكيو وهيروشيما، حيث عمل بنفسه على تنظيم معظم مقابلاتى مع المسئولين اليابانيين وأخذ يتحدث بكل فخر عنى أمام طلابى ويذكرنى فى كل مرة نتقابل فيها بهذا اللقاء الذى تم فى بيته بيوكوهاما حينما فكرت فى مغادرة اليابان والاستسلام للشعور بالغربة والضعف والفشل، وأسأل نفسى بالفعل حتى الآن ماذا لو تصرف ناكمورا وقتها بشكل مختلف ولم يدعُنى إلى بيته ولم ينصحنى ويضغط على للبقاء؟!
• • •
أكتب هذه السطور بعد مرور عشرين عاما من معرفة الأستاذ أكيرا ناكمورا الذى كان ولا يزال واحدا من أهم الشخصيات التى أثرت فى حياتى العملية والإنسانية، أكتب عن أفضال هذا الأستاذ الذى علمنى وأنا فى سن صغيرة أن الأديان والأعراق لا يجب أبدا أن تكون عائقا أمام التواصل الإنسانى، وأن الكرم والاحترام والحب غير المشروط والود والإخلاص والاتقان كلها قيم غير قاصرة على دين أو عرق أو جنسية بعينها! أكتب عمن تعلمت منه أن الوطن ليس فقط مكان الميلاد ولا يقتصر على الأوراق الرسمية التى تعرف الجنسية، ولكن الوطن حيث يكون الشعور بالأمان والاحترام والتقدير بعيدا عن أى شعارات فارغة من المضمون!
بالأمس عرفت أن أستاذى فى حالة حرجة فى المستشفى يعانى من مرض خطير فاتصلت به للاطمئنان، فإذا به وهو على فراش المرض يسألنى عن زيارتى القادمة إلى طوكيو مؤكدا استعداده لمساعدتى فى ترتيب لقاءات لطلابى كالعادة كما كان يفعل، وحينما أخبرته بميعاد الزيارة فى يونيو فإذا به، وهو على فراش المرض، يأخذ فى ترتيب الاتصالات رغم رجائى له بألا يفعل، بل وقرر أنه ــ احتفالا بمرور عشرين عاما على التحاقى بجامعة ميجى ومعرفتى الشخصية به ــ سيقيم حفلة على شرفى مع بعض طلابه السابقين وزملائى الذين أصبحوا أيضا أساتذة جامعات ومسئولين حكوميين فى اليابان، واعدا إياى بأنه سيفعل كل شىء فى وسعه لدعوة أكبر عدد من الأصدقاء لهذه الحفلة لو تماثل الشفاء!
أكتب هذه الكلمات عن هذا الأستاذ العظيم الذى علمنى الكثير من المعانى الجميلة فى الحياة معترفا بأفضاله الكثيرة على وعلى أجيال كثيرة من الطلاب والطالبات الذين اختاروا الدراسات السياسية فى اليابان وشرق آسيا مجالا للدراسة، مذكرا نفسى بأن الحياة فى النهاية هى سيرة لابد أن نخلص دائما فيها لقيمنا وأخلاقنا ما دمنا نتنفس، وأدعو القراء الأعزاء مشاركتى الدعاء للأستاذ ناكمورا بالشفاء واستكمال مسيرته الرائعة فى العلم والمعرفة!
مدير برنامج التعاون الدبلوماسى الأمريكى اليابانى، وأستاذ مساعد العلاقات الدولية بجامعة دنفر