حركات الاحتجاج الاجتماعي في العالم العربي – إلى أين؟
عمرو حمزاوي
آخر تحديث:
الأحد 13 يونيو 2010 - 12:19 م
بتوقيت القاهرة
شهد عدد من مجتمعات أوروبا الغربية في سبعينيات وثمانينيات القرن العشرين ظهور حركات احتجاجية تخطت الإطارات التقليدية لليمين (الأحزاب المحافظة والمسيحية الديمقراطية والليبرالية) واليسار (الأحزاب الاشتراكية الديمقراطية والشيوعية التي انخرطت في العمل السياسي والحزبي الرسمي) وقواعدهما الاجتماعية (البرجوازية والطبقة الوسطى والطبقات العمالية) وشكلت تجديداً هاماً للحياة السياسية.
ساهمت حركات مثل مجموعات الخضر وأنصار البيئة والجماعات النسوية في تجديد الخطاب السياسي في الديمقراطيات الأوروبية التي استقرت مؤسساتها ونظمها القيمية بعد الحرب العالمية الثانية وذلك من خلال التركيز على قضايا السلام العالمي والبيئة وحقوق المرأة والأقليات.
وكان لافتاً للنظر أن تلك الحركات رفضت في مراحلها الأولى الانخراط في العمل السياسي والحزبي الرسمي وكثفت نشاطها في ساحات المجتمع المدني مبتكرةً في هذا السياق لأشكال احتجاجية سلمية من شاكلة الاعتصامات الدورية أمام محطات توليد الطاقة النووية وأمام معسكرات الجيوش والمقار الحكومية ومسيرات ما أصبح يعرف بيوم "السلام العالمي" (21 سبتمبر من كل عام) وغيرها.
إلا أن محورية المجال السياسي التقليدي ببرلماناته وأحزابه في عملية صنع القرار العام دفعت بالحركات الاحتجاجية الجديدة في مرحلة ثانية إلى مسارين تطوريين هامين. فشرع بعضها في تكوين أحزاب نافست على أصوات الناخبين وأضحت جزءاً فعالاً من المعارضة البرلمانية، بل وشاركت أحياناً في الائتلافات الحاكمة كما في حالات أحزاب الخضر في ألمانيا وبعض الدول الاسكندنافية. بينما نزع عدد من الحركات الاحتجاجية إلى الانضمام للأحزاب السياسية القائمة، خاصة اليسارية، بعد أن استوعبت الأخيرة قضاياها وانفتحت عليها.
ورتب كلا المسارين تعميق الممارسة الديمقراطية وتوسيع مساحات التعددية في مجتمعات كانت قد بدأت تشكو من فقر السياسة وترهلها.
والحقيقة أن جزء مما يحدث الآن في عدد من المجتمعات العربية، ومصر والمغرب والجزائر في مقدمها، التي تبرز بها بصورة تكاد تكون يومية حركات وفعاليات احتجاجية جديدة إنما هو شديد الشبه بالحالة الأوروبية الاحتجاجية في أخريات القرن الماضي، على الرغم من الاختلافات الجوهرية بين أنماط نظم الحكم ومستويات النمو المجتمعي هنا وهناك. فتأسيس حركات كحركة شباب 6 إبريل المصرية وتنسيقيات مناهضة غلاء الأسعار والدفاع عن الخدمات العمومية بالمغرب وأقرانهما في مجتمعات أخرى يعبر أيضاً بجلاء عن محاولة واعية لتخطي حواجز الحياة السياسية العربية وجمودها الذي فرضته نخب سلطوية وأحزاب معارضة همشها غياب حرية الحركة واستسلامها التدريجي لوضعية الكيانات الورقية المبتعدة عن القواعد الشعبية.
ومع أن الشق الأكبر من خطاب الحركات الاحتجاجية العربية يقتصر على المطالب الاقتصادية والاجتماعية لأغلبيات أرهقها تردي الأوضاع المعيشية ولا يتجاوز بعده السياسي رفض ممارسات النظم الحاكمة والدعوة العامة إلى التحول الديمقراطي ومكافحة الفساد دون صياغة رؤى محددة لكيفية إنجازها، إلا أنها أبدعت خلال الأعوام القليلة الأخيرة في ابتكار أساليب مستحدثة للوصول للمواطن العازف عن المشاركة والاهتمام بالشأن العام وفي توظيف حالة الاستياء الشعبي لبلورة روح معارضة تعيد اكتشاف السياسة وتذكر نخب الحكم يومياً بأن هناك من يتابع ممارساتها في الداخل ويطمح للتغيير.
ومثلما سعت الحركات الاجتماعية الأوروبية إلى إعادة صياغة التوافق الديمقراطي القائم بالفعل ليشمل قضايا المرأة والبيئة وحقوق الأقليات، تهدف نظيراتها في مجتمعاتنا إلى صياغة توافق حول عقد اجتماعي جديد مرتكزاته توزيع أكثر عدالة للثورة يواجه ظواهر الفقر والبطالة والتهميش وحريات حقيقية تضمن للمواطنين القدرة على الاهتمام بالشأن العام فرادى وجماعات واحترام أعمق لحقوق الإنسان يكفل حرية التعبير عن الرأي والنشاط المدني والسياسي.
بل أن هناك وجه أخير للتماثل بيننا وبينهم، آلا وهو حقيقة أن أحزاب الخضر والجماعات النسوية في أوروبا ضمت في صفوفها سياسيين ومثقفين من اليمين واليسار جمعهم الإيمان بأهمية القضايا الجديدة تماماً كما تتسع عضوية الحركات الاحتجاجية العربية لتشمل إسلاميين وليبراليين ويساريين وقوميين توحدهم – على الأقل جزئياً – القناعة بحتمية التوافق على عقد اجتماعي جديد متخطيةً بذلك لثنائيات أيديولوجية فاصلة حالت طوال العقود الماضية دون ظهور أجندة وطنية.
لكن عند هنا تنتهي مساحة التماثل وتبدأ أوجه متعددة للاختلاف في البروز على نحو يمكن حصره في مستويات ثلاث رئيسية. ففي حين استندت الحركات الاحتجاجية الأوروبية بالأساس إلى قطاعات الطبقة الوسطى في المناطق الحضرية والريفية وإلى اتحادات الكتاب والمثقفين والفنانين فضلاً عن مجموعات ليبرالية ويسارية متنوعة لم تتمكن الأحزاب التقليدية من استيعابها، يشكل المثقفون ونشطاء المجتمع المدني فقط عماد المعارضة الاحتجاجية الجديدة في العالم العربي. مكن حضور الطبقة الوسطى في أوروبا الخضر وغيرهم من التحرك والحشد الجماهيري ومن ثم ساعدهم على توليد ضغوط شعبية حقيقية حتمت إدماجهم في الحياة السياسية إن كأحزاب أو كقضايا.
في حين يرتب عزوف الفئات الوسيطة في مجتمعاتنا حتى الآن عن المشاركة المنظمة في فعاليات المعارضة الاحتجاجية – على ما أظهره على سبيل المثال فشل حركة شباب 6 إبريل المصرية في دعوتها إلى تنظيم إضرابات عامة في 2008 و2009 - غياب القواعد الشعبية للحركات العربية ويفسر إخفاقها في الحشد الجماهيري.
تتفاوت من جهة ثانية إمكانات الفعل المدني والسياسي في السياقين الأوروبي والعربي تفاوتاً جذرياً يرتبط بالفوارق النوعية بين ديمقراطيات مستقرة هناك ونظم حكم سلطوية أو تعدديات مقيدة في أفضل الظروف هنا. فلا شك أن التضييق المستمر من جانب الحكومتين المصرية والجزائرية على الحركات الاحتجاجية، بل والملاحقة الأمنية المستمرة لأعضائها على الرغم من الطابع السلمي لفعالياتهم، يحد كثيراً من قدرتهم على التحرك في الشارع لمخاطبة المواطنين وإقناعهم بأهمية الضغط الشعبي المنظم على الحكومات حتى تستجيب لمطالبهم الاقتصادية والاجتماعية والسياسية المشروعة.
عزلة المعارضات والحركات الاحتجاجية هي واحدة من الحقائق البنيوية للنظم السلطوية التي يصعب التغلب عليها في مجتمعات نامية تتدنى بها معدلات التعليم واستخدام تكنولوجيات الاتصال الحديثة ومازال الخوف من الحاكم وأجهزته القمعية يهيمن على ثقافتها السياسية.
على صعيد ثالث تمتعت النخب الأوروبية الحاكمة في سبعينيات وثمانينيات القرن العشرين بالخاصية الرئيسية التي تميز منطق إدارة السياسة وعلاقة الدولة بالمواطن في المجتمعات الديمقراطية، العقلانية. العقلانية تلك هي التي مكنت أحزاب اليمين واليسار وكذلك بيروقراطية الدولة ومؤسساتها من إدراك أهمية الأجندة المجتمعية والسياسية التي عبرت عنها الحركات الاحتجاجية ومن الانفتاح التدريجي والرشيد عليها بعد مرحلة أولى من الرفض، بل والمواجهات الأمنية مع جماعات ضمت بقايا اليسار الراديكالي العنيف الذي فرض بصمته الدامية على أوروبا الغربية في النصف الأول من السبعينيات. بعبارة أخرى نجح استقرار النهج الديمقراطي في تحويل ما بدا تهديداً مثلته الحركات الاحتجاجية إلى دمج لها وتجديد في الخطاب حول السياسة وكيفية ممارستها. أما الحالات العربية فهي في الأغلب الأعم على نقيض من ذلك إلى حد بعيد.
فالعقلانية المرتبطة بالإدارة الديمقراطية لعلاقة الدولة بالمواطنين غائبة عن نخب هدفها البقاء في السلطة ومازالت ترغب في الاحتكار الكلي للسياسة. تكاد تنعدم إذاً إمكانية الانفتاح الجدي على رؤى ومطالب الحركات الاحتجاجية الجديدة على نحو يحرمها من مجالات التأثير على عملية صنع القرار العام ويحول بينها وبين التطور ربما لتشكيل أحزاب سياسية على غرار التجربة الأوروبية.
يظل مستقبل الحركات الاحتجاجية العربية مرهون بحدوث انفراجات ديمقراطية حقيقية في عالمنا تمكنهم من التواصل مع قواعد شعبية تهتم بالشأن المجتمعي ومن التفاعل مع نخب حكم رشيدة تضع المصلحة الوطنية نصب أعينها وتدرك أن تحديد مضامين الأخيرة إنما هو قضية توافقية بالأساس. المشكلة هي من أين لهذه الانفراجات أن تأتي.