مذكرة توقيف البشير – يوم جيد للعدالة الدولية
عمرو حمزاوي
آخر تحديث:
الأحد 13 يونيو 2010 - 12:21 م
بتوقيت القاهرة
بعاصفة من الرفض الرسمي العربي قوبل إصدار المحكمة الجنائية الدولية لمذكرة توقيف بحق الرئيس السوداني عمر البشير واتهامه بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية في دارفور. ندد الرسميون السودانيون بالطابع المسيس للمحكمة الدولية ولعمل مدعيها العام لويس مارينو أوكامبو واعتبروا مذكرة التوقيف دليلاً بيناً على "الهجمة الاستعمارية الجديدة" (مستشار البشير) وعلى أن "السودان يمثل الصوت العالي لرفض كل أنواع الهيمنة والاستعمار" (البشير).
وتحركت الحكومة السودانية سريعاً لإلغاء التراخيص الممنوحة ل10 منظمات إغاثة دولية عاملة في دارفور متذرعة برفض التدخل الأجنبي في الشئون الداخلية. أما المسئولون العرب فتضامنوا مع البشير بتحذير البعض منهم من مؤامرة دولية تحاك ضد السودان تستهدف تقسيمه وتعبير البعض الآخر عن قلقه إزاء التداعيات السلبية لمذكرة التوقيف على الأمن والاستقرار في دارفور.
وتوافق الجميع، ومعهم عدد كبير من الكتاب والمعلقين العرب المهمومين فقط بنقد بازدواجية معايير الغرب واتهام أدوات العدالة الدولية بالكيل بمكيالين بتعقبها البشير وتجاهلها انتهاكات دول كإسرائيل والولايات المتحدة لحقوق الإنسان في فلسطين والعراق وأفغانستان، على وجوبية تضامن الحكومات العربية مع البشير لإسقاط مذكرة التوقيف أو تجميدها لمدة عام من خلال استصدار قرار من مجلس الأمن يقضي بذلك (وهي الإمكانية القانونية التي تتيحها لمجلس الأمن المادة 16 من ميثاق روما المنشئ للمحكمة الجنائية الدولية).
ولم يخرج عن هذا التوجه الرافض سوى نفر قليل من منظمات حقوق الإنسان السودانية والعربية، أخص بالذكر منها في السياق المصري مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان والذي أصدر بياناً جريئاً أيد به مذكرة توقيف البشير وأدان الحكومات العربية لتغاضيها الطويل للانتهاكات المنظمة لحقوق الإنسان في دارفور.
ليس بعجيب إذاً أن يرتب صخب عاصفة الرفض العربي لمذكرة توقيف البشير تهميشاً تاماً للجوهر الإنساني والقانوني لمأساة دارفور ومسئولية حكومة الرئيس البشير عنها. فوفقاً لأقل التقديرات الدولية (حكومية وغير حكومية) مبالغةً تعرض سكان دارفور، وهم مواطنون سودانيون مسلمون، في الفترة ما بين عام 2002 وعام 2007 إلى قتل ما لا يقل عن 30000 منهم في هجمات لقوات الجيش السوداني وقوات الميليشيات (الجنجاويد) المتحالفة معه، وهجر وشرد ما يزيد عن 2 مليون تحولوا إلى لاجئين في داخل دارفور أو في تشاد المجاورة، وكذلك ارتكبت انتهاكات منظمة لحقوق الإنسان في معسكرات اللاجئين بدارفور سببت تدهوراً حاداً تسببت في سقوط عدد كبير من النساء والبنات ضحايا لجرائم الاغتصاب والاعتداءات الجنسية وفي ارتفاع مريع لمعدلات الوفيات وسوء التغذية خاصة بين الأطفال لتصل اليوم إلى 20 بالمائة و41 بالمائة على التوالي وفقاً لبيانات منظمة اليونيسيف الدولية.
وفي كل هذا تورطت حكومة البشير بصورة مباشرة في سياق الصراع مع حركات التمرد المسلحة في دارفور وماطلت العالم طويلاً قبل أن تقبل في 2008 نشر قوات أممية-أفريقية في دارفور وتلتزم بتسهيل تقديم المساعدات الإنسانية للسكان من خلال منظمات دولية غير حكومية (هي تلك التي ألغيت تراخيص عملها ما أن أصدرت المحكمة الجنائية الدولية مذكرة توقيف البشير).
نحن إذاً وبلا ريب أمام جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية ونظام حكم قمعي يتحمل أوزارها ومسئولية قانونية وسياسية مؤكدة لشخوصه وعلى رأسهم البشير الذي لا يحميه الكرسي الرئاسي من الملاحقة القضائية. مشين حديث الرسميين السودانيين عن تلفيقية اتهامات المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية أوكامبو، وهو صاحب السجل المهني الرفيع والخبرة المتميزة في تعقب كبار وصغار منتهكي حقوق الإنسان في أمريكا اللاتينية وخارجها، وصمتهم المطبق في ذات الوقت عن مسئولية مجرمي دارفور الحقيقيين وهم في صفوفهم.
والواقع أن الحكومة السودانية تغاضت خلال الفترة التي سبقت إصدار مذكرة توقيف البشير عن الشروع في إجراءات تقاضي فعلية ضد المسئولين عن انتهاكات حقوق الإنسان في دارفور على الرغم من المطالبات الدولية المتتالية، بل وإشارة جامعة الدول العربية على لسان أمينها العام إلى احتمالية أن يمثل ذلك مفتاحاً للتسوية مع المحكمة الجنائية الدولية.
أما أولئك الذين يدفعون بالطابع المسيس لعمل المحكمة وبانحيازها للغرب حين تلاحق البشير وتتجاهل انتهاكات إسرائيل المنظمة لحقوق الشعب الفلسطيني في الأراضي المحتلة وانتهاكات الأمريكيين في العراق وأفغانستان فينطلقون من رؤية غير أخلاقية تستبيح في التحليل الأخير دماء من قتلوا في دارفور وكرامة من اغتصبن بذريعة أن منتهكين آخرين لا يتم تعقبهم ولا ينظر فيما يرتكبون من جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية.
لا ينتقص من العدالة الدولية أن تلاحق اليوم مجرمي دارفور في حين تستمر هيئتها العليا ممثلة في المحكمة الجنائية في الإعراض عن النظر المنظم في ملفات تراكمت لانتهاكات إسرائيل والولايات المتحدة. نعم يشكل ذلك تعبيراً واضحاً عن اختلال توزيع القوة عالمياً ودليلاً بيناً على الحدود الواقعية الواردة على تطبيق العدالة دولياً، بيد أن كليهما لا يعنيان أننا أمام ممارسة ساقطة لعدالة الأقوياء طالما توفرت الأدلة وضمنت نزاهة إجراءات التقاضي في حالة دارفور.
أما الخوف الذي عبر عنه العديد من الرسميين والكتاب العرب من أن تدفع المساءلة القضائية للبشير حكومته إلى القيام بردود أفعال عنيفة قد تزيد من كارثية الأوضاع في دارفور ومن ثم تبرير مطالبة مجلس الأمن إما بإلغاء مذكرة التوقيف أو على الأقل تجميدها لمدة عام فيخلط دون بوصلة قيمية بين مقتضيات العدالة واعتبارات السياسة وفي التحليل الأخير يضر بكليهما مجتمعين. فمن السذاجة توقع أن يمتنع نظام حكم قمعي كنظام البشير، وهو بالمجمل لا يساءل أو يراقب داخلياً، عن انتهاكاته لحقوق الإنسان إن غابت الضغوط الدولية الرادعة، قضائيةً كانت أو سياسيةً واقتصاديةً.
وكما أن علينا في العالم العربي أن نكف عن النظر إلى العدالة الدولية بشأن دارفور من خلال عدسة الانتهاكات الإسرائيلية والأمريكية غير المتعقبة وعن التجاهل الغير أخلاقي لدماء وحقوق ضحايا دارفور بحجة ازدواجية المعايير، علينا أيضاً أن لا نستسلم لحديث الحكومة السودانية الرديء عن أن مذكرة التوقيف ما هي إلا حلقة جديدة في سلسلة المؤامرات الغربية ضد السودان وضربة موجهة للرئيس البشير كرمز لكرامة وصمود الشعب السوداني.
فواشنطن وغيرها من العواصم الغربية لم تختلق مأساة دارفور من العدم، ومن غير المقبول اختزال شعب ودولة السودان في رئيس قمعي يتباهى بزيه العسكري وحكومة انتهكت وبصورة منظمة حقوق وحريات السودانيين على مدار الأعوام الماضية في دارفور وخارجها. الأولوية اليوم ينبغي أن تكون للسودان ومصالحه الحقيقية شعب ودولة، وليس للإبقاء على رئيس وحكومة أساءوا الفعل ولم يقدموا لا للشعب المغلوب على أمره ولا لتماسك الدولة السودانية المأزومة منذ عقود الشيء الكثير.