أزمة اقتصادية عالمية وعقد اجتماعي غائب
عمرو حمزاوي
آخر تحديث:
الأحد 13 يونيو 2010 - 10:37 ص
بتوقيت القاهرة
لنا، إذا نظرنا إلى مجمل المشهد السياسي العالمي، أن نتحدث عن لحظة أزمة حقيقية تعتري علاقة الدول بمجتمعاتها ومواطنيها جوهرها إما اختلال متعدد المستويات لعقد اجتماعي متوازن تبلور واستقر بمراحل سابقة أو استمرار لغيابه في ظل صراعات متواترة تعصف بأسس العيش المجتمعي المشترك.
ديمقراطيات أمريكا الشمالية وأوروبا، وبعد حقبة طويلة استقر بها عقد دولة الرفاه الاجتماعي وجمعت بصياغات مختلفة بين مكونات ثلاث هي التزام اقتصاد السوق وضمان عدالة الحد الأدنى وممارسة الحريات المدنية والسياسية، تعاني اليوم من اختلالات حقيقية تعمق من آثارها الأزمة الاقتصادية العالمية وتطال دور الدولة وحدود مسئولياتها في إدارة اقتصاد السوق والخيط الناظم لعلاقتها بالمجتمع والمواطنين.
فقد أخذت الهوة الفاصلة بين دخول الشريحة العليا من أغنياء الولايات المتحدة وبين حظوظ بقية السكان من الثروة في الاتساع منذ الثمانينيات مع تراجع دور الدولة الضامن للعدالة التوزيعية وتغير النظم الضريبية لصالح الأغنياء لتصل إلى معدلات غير مسبوقة. وفقاً لإحصائيات عام 2007، يستحوذ ما لا يزيد عن 10 بالمائة من الأمريكيين على أكثر من 70 بالمائة من ثروة المجتمع تاركين ما يقل عن الثلث لأغلبية ساحقة (90 بالمائة) من الفقراء ومحدودي ومتوسطي الدخل.
هنا تكشف مقارنة سريعة مع معدلات السبعينيات وخلالها لم يتجاوز نصيب الشريحة العليا من الثروة 30 بالمائة، عن راديكالية التحولات المجتمعية التي تشهدها الولايات المتحدة في ظل تراجع دور الدولة وتوحش اقتصاد السوق. وقناعتي أن القوة العظمى، وسياسات أوباما خلال الأشهر الأولى تذهب في هذا الاتجاه، لن تخرج من أزمتها الاقتصادية إلا بإعادة شيء من دور الدولة إلى السوق وإلى المجتمع شيء من العدالة التوزيعية بين الأغنياء والفقراء.
وإذا ما استثنينا النماذج الراقية للعدالة الاجتماعية في الدول الإسكندنافية، يتشابه التطور المعاصر لمجتمعات غرب أوروبا مع الخبرة الأمريكية وإن اختلفت النسب والمعدلات. فعمليات تفكيك دولة الرفاه الاجتماعي وكف يدها العادلة عن اقتصاد السوق، والتي دشنتها أوروبياً رئيسة الوزراء البريطانية السابقة مارجريت تاتشر (1979-1990) واتسع نطاقها تدريجياً ليشمل ألمانيا وفرنسا وإيطاليا وأسبانيا وتعاقبت على تطبيقها حكومات يمين ويسار، أخلت بتوازن المجتمعات الأوروبية وأفقدت النخب الشيء الكثير من شرعية القبول الشعبي. خلال العقدين الماضيين وكما أظهرت بيانات إحصائية ومسحية مختلفة، ارتفعت معدلات تركيز الثروة بمعظم الحالات الأوروبية على نحو عمق من الفوارق الطبقية وقلص من المساحة التي تشغلها الشرائح متوسطة الدخل بالخريطة المجتمعية وجعل من الفقر ظاهرة متنامية.
فعلى سبيل المثال تراجعت نسبة الطبقة الوسطى إلى إجمالي السكان بألمانيا من 62 بالمائة عام 2000 إلى 54 بالمائة عام 2006 وتجاوزت نسبة المهددين بالفقر 12 بالمائة، بل بلغت الأخيرة ببريطانيا 17 بالمائة وبإيطاليا 18 بالمائة. ومع أن الحكومات الأوروبية وعلى نقيض الخبرة الأمريكية لم تتبع تفكيك دولة الرفاه بانتقاص جوهري في الحريات المدنية والسياسية ارتبط بممارسات إداراتي بوش 2000-2008، إلا أنها أضحت هي الأخرى تعاني من أزمة شرعية يسهم في تكريسها إن فضائح فساد متتالية أو تحالفات عضوية بين السياسة والمال أو غياب شبه تام للاختلافات الفعلية (أي البرامجية) بين قوى اليمين واليسار يرتب عزوف المواطنين عن السياسة وفقدان ثقتهم بمن يمارسها.
وما التنامي اللافت لظواهر مرضية كالعنصرية والشعبوية والعنف، وجميعها مرشح للتصاعد في ظل الأزمة الاقتصادية العالمية، سوى تعبير عن الاختلال المستمر في العقد الاجتماعي الضابط لعلاقة الدولة بالمجتمع والمواطنين وعجز الأوروبيين عن صياغة لحظة توازن جديدة وشرعنتها توافقياً.
إن كانت هذه هي وضعية الديمقراطيات الغنية بالغرب اليوم وهي تواجه الأزمة الاقتصادية الأعمق منذ كساد ثلاثينيات القرن الماضي، فما بالنا بحالة الدول السلطوية التي ما لبثت بها علاقة الدولة بالمجتمع والمواطنين تدار على نحو قسري يجرد أي حديث عن عقد اجتماعي حقيقي من المضمون أو بتلك التي لم يتبلور بها بعد فهم حديث للدولة يفصل بينها وبين الهويات الدينية والعرقية والمذهبية المكونة للمجتمع ويؤسس للتعامل الحيادي معها؟ ومع أن حظوظ السلطويات الحاكمة على سبيل المثال بالصين وروسيا وإيران ومصر والمغرب وفنزويلا تتفاوت من النمو الاقتصادي والاجتماعي كما تختلف أنماط إداراتها للحياة السياسية من احتكار صريح وقمع منهجي إلى اعتماد تعددية منقوصة ومشوهة تقف دون مستوى تداول السلطة، إلا أنها تتلاقى جميعاً على الجوهر الاستعلائي لتعريف علاقة الدولة ونخبتها الحاكمة بالمجتمع والمواطنين وكذلك على النظر إلى قضايا الشرعية والقبول الشعبي باعتبارها بمثابة حقوق عضوية للدولة لا تنزع عنها أو تحرم منها بغض النظر عن وجهة سياساتها وحصاد ممارساتها.
وواقع الأمر أن تواكب هذين المكونين إنما يفسر بوضوح نزوع مثل هذه الدول السلطوية إلى التعامل بعنف مع إرهاصات التململ الشعبي كما يشهد سحل عسكر الحزب الشيوعي الصيني لمتظاهري الديمقراطية بميدان السلام السماوي 1989 وتنكيل روسيا بوتين المستمر بالأصوات المشككة بالموقع الأبدي للرئيس السابق ورئيس الوزراء الحالي في أعلى نخبة الحكم وقمع الأمن المصري لحركات احتجاجية عفوية لا مطالب لها سوى تأمين حد أدنى من العيش الكريم.
أما الحالات التي لم تعتمد بعد فهم حديث للدولة وللمواطنة الجامعة، وتحت هذه الفئة يندرج العدد الأكبر من المجتمعات العربية، فقد يربط حكوماتها بمواطنيها منطق ريعي خير يعتمد توزيع عوائد الثروة المجتمعية بصورة تلبي مطالب أغلبية واضحة ومن ثم تضمن رضاها على ما كنا نراه بأغلب دول مجلس التعاون الخليجي المصدرة للنفط قبل الأزمة الاقتصادية الراهنة.
وقد تختزل العلاقة الرابطة بين الحكومات والمواطنين إلى ممارسة قمعية تهدف إلى ضمان سيطرة مجموعة عرقية أو دينية أو مذهبية بعينها على عموم المجتمع وهو ما عبر عنه عراق صدام حسين بقسوة بالغة ومازالت يعبر عنه إلى اليوم حكم العلويين في سوريا. والكارثة هنا هي من جهة افتقاد الريع للثبات ومن ثم حتمية التغيير الدوري لنمط توزيع العوائد بما يرتبه ذلك من توترات مجتمعية هي اليوم في تصاعد مستمر في الخليج، ومن جهة أخرى استحالة استمرار الحكم القمعي للطائفة الواحدة أو للمذهب الواحد إلى ما لا نهاية ومأساوية لحظة البحث عن عقد اجتماعي بديل ما أن ينهار.