راق لى مساء يوم السبت الماضى أن أشاهد أحد الأعمال الفنية القديمة التى تعرضها قنوات فضائية معروفة، كنت قد مللت متابعة الأخبار وحفظت عن ظهر قلب نشرات قناة البى بى سى التى لا أشاهد غيرها تقريبا حتى يمكن اختبارى فى أسماء الضيوف فأبلى بلاء لا بأس به أبدا ! وصلت إلى إحدى هذه القنوات وكانت تعرض مسرحية «أنا فين وانت فين» للرائعين فؤاد المهندس وشويكار فتوقفت عندها وأنا أبتسم حتى قبل أن أتابعها، فهذه المسرحية ككل مسرحيات الثنائى فؤاد وشويكار ليست فقط جزءا من سنوات عمرى الأجمل والأسعد لكنها كذلك جزء من تكوينى النفسى والعاطفى وهى أيضا تمد قاموسى اللغوى بحصيلة وافرة من مفرداته اللطيفة، فعلى سبيل المثال عندما أتبادل الرسائل مع إحدى صديقاتى عبر شخص ثالث أو وسيط أُطلق على هذا الوسيط اسم «صادق أفندى»، وعندما أتضاحك مع أخرى ونحن نتفاخر بالآباء والأجداد أستحضر مشهد «دولت هانم» وهى تسأل «أيوب جاد الحق» ويداها تحيطان خصرها فى ثقة «جدك كان قائد طابية؟»، وعندما أثرثر مع ثالثة عن فلان زئر النساء الذى لا ننفك نسمع عن مغامراته المتكررة أتذكر «شوكت بك» وكل ضحاياه النسائية فى «أوتيل الديك الذهبى ومطعم الوردة المفتحة».. عندما وعندما وعندما.
***
يُفتٓح ستار مسرحية «أنا فين وانت فين» فيُزال تلقائيا أى حاجز بيننا وبين أبطال العمل ونصير جزءا منه ومنهم، نبكى مع الطفلة «چيهان» حين تودع شبيه والدها، ونذوب تعاطفا مع الرجل وهو ينتحى جانبا ويذرف دمعا حقيقيا، ثم نعود ونضحك معه بعد ثوان وهو يقول بنغمة ساخرة «إيييييييه ما عادش ييجى منه». لم يسلك بهجت قمر وسمير خفاجى الطريق السهل لقلوب الجماهير أى طريق النهايات السعيدة فلقد افترق بطلا المسرحية «أيوب افندى» و«دولت هانم «وكأن المؤلفٓين يبعثان برسالة مفادها أنه رغم كل النوايا الطيبة فإن الفوارق الطبقية لها مفعولها. على أية حال يكفى المؤلفٓين مدعاة للرضا أن كم البهجة فى عملهما بديكوراته وأبطاله وملابسهم وأدائهم يرفع منسوب المتعة عند المشاهدين إلى حد الفيضان.
***
جلست إذن أمام مسرحية «أنا فين وانت فين» أتابعها بشغف كأننى أحضر عرضها الأول فالضحك نفسه وأيضا البكاء، لكن قبل أن ينتهى الفصل الثانى بما أعرفه حق المعرفة ويظهر «طابوزادة» صائحا بصوت جهورى «دولت احفظى مركزك» فوجئت ودون مقدمات ببدء الفصل الثالث من المسرحية. لم أفهم سبب هذا البتر الذى أسدل الستار فى وجوه المشاهدين وراهن على ضعف ذاكرتهم. وبدأ الفصل الثالث فاندمجت معه وتناسيت ما حدث فى الفصل الثانى لأفاجأ هذه المرة بإنهاء المسرحية والشروع فى عرض فيلم «فضيحة فى الزمالك». لعنت اللحظة التى تركت فيها متابعة الأخبار على فضائية الـ«بى بى سى» وجلست أمام هذه الفضائية حيث الإعلانات المكثفة عن السحر وحل المشاكل بالرُقية الشرعية وحيث الصوت الرديء للكثير من الأعمال الفنية القديمة. لم أجعل مسئولى القناة يفرضون عليّ مشاهدة ما يريدونه هم فيما أنا مستغرقة فى مشاهدة ما أريده، أغلقت التلفزيون ورحت أبحث عن تكملة المسرحية على اليوتيوب ووجدت فعلا نسخة كاملة ومسموعة بشكل جيد، وقدرت أن تجهيز نسخة للعرض التلفزيونى بالجودة نفسها يحتاج إلى تمويل يبدو مردوده غير مشجع، على أية حال قضيت ليلتى مع المسرحية حتى نهايتها وشاهدت تحية الجمهور لفريق العمل الكبير.
***
ما حدث فى هذا المساء لا يسىء فقط لنا نحن المشاهدين لكنه يستخف بالدرجة نفسها بهؤلاء الفنانين العظام الذين يملكون بإبداعهم قوة لا تُنافس، نقول عنها قوة مصر الناعمة. ومع ذلك فإن المسألة أكبر من مسألة إفساد أمسية المشاهدين أو الاستخفاف بفنانين عظام، فهى تتعلق بتعاملنا مع ثروة مصر الفنية التى لا تعوض ولا تقدر بمال، ورثة هذه الثروة ليسوا هم فقط أحفاد المنتجين الأصليين الذين يحتفظون بصكوك الملكية ووثائقها لكنهم نحن المشاهدين الذين وُلدت تلك الأعمال على أياديهم وأياد من سبقوهم فاكتسبوا حقوقا مشروعة مبعثها تقديرهم الفن الرفيع والإيمان بدوره فى نهضة الأمم والشعوب. قارنتُ بين صحيفة الاتحاد الإماراتية التى نشرَت مقالا لسعيد ياسين فى ٦ نوڤمبر ٢٠١٥ بعنوان «أنا فين وانت فين» حب لا يعرف الفوارق وكان ذلك للاحتفال بمرور نصف قرن على عرض هذه المسرحية، وبين بعض فضائياتنا التى تحذف بارتياح مشاهد كاملة من المسرحية نفسها ولا تعنى بتجهيز المشاهد المعروضة تجهيزا مناسبا ورددت القول الأثير: لا كرامة لنبى فى قومه.
***
الموضوع ذو شجون وإذا كانت مسرحية «أنا فين وانت فين» قد عُرضت مشوهة كما قلت فالعشرات من المسرحيات القديمة الأخرى لا تُعرض ولا تعرف عنها شيئا الأجيال المتعاقبة منذ الثمانينيّات. حدثنى عن مسرحية «أصل وصورة» التى لعب بطولتها عبدالمنعم مدبولى ومحمد عوض وأمين الهنيدى وعُرضت عام ١٩٦٣ وناقشت ببراعة شديدة مشاكل الوسط الصحفى من فساد وتلفيق وتسلط رئيس التحرير على الصحفيين، حدثنى عنها وقل لى ماذا حدث لها ولماذا لا يلتفت إليها أى من فضائياتنا. إن بعض روائع الستينيات من الأعمال المسرحية لا تُعرض على شاشات الفضائيات لكن هناك من يقوم بإعادة إنتاجها فى شكل مسلسلات تلفزيونية مثل «عيلة الدوغرى» أو على هيئة مسرحيات بأبطال جدد ونَفَس جديد مثل « سكة السلامة»، أما البعض الآخر من تلك الأعمال فإنه قُبِر ولم يعد يعيش إلا فى ذاكرتنا فإذا ما ذهبنا ذهب معنا. بطبيعتى لا أحب استنساخ الأعمال الأصلية ولا أُقبِل على مشاهدتها، لكن يبقى أن هذا الاستنساخ فى غياب الأصل ينقل للأجيال الشابة بعض روائع الماضى فى التلفزيون والمسرح.
***
يكتبون كثيرا عن قوة مصر الناعمة، ويتباهون ما وسعهم بتاريخ السينما والمسرح الأقدم فى المنطقة العربية، ويعلقون صور أساطير التمثيل وأساطين اللحن والغناء، ثم نتبين أن النعومة هذه مثلها كمثل نعومة الرمال تغوص فيها أقدامنا ثم لا تعود تحتفظ بشيء من آثارنا.