«اليوم التالى».. وضرورة القبة السياسية

طارق فريد زيدان
طارق فريد زيدان

آخر تحديث: السبت 13 يوليه 2024 - 8:55 م بتوقيت القاهرة

 

فى الشرق الأوسط، ثمة مؤشرات بأن الصراع بين واشنطن وطهران قد بلغ مداه، وإلا كيف يمكن تفسير هزيمة المرشح المحافظ سعيد جليلى فى مواجهة المرشح الإصلاحى مسعود بزشكيان فى انتخابات الرئاسة الإيرانية؟
عمليا؛ فرش «المرشد الإيرانى» السجادة الحمراء أمام ملامح مشروع إيرانى يقود إلى التسويات لا إلى الحروب بمجرد مباركته وصول إصلاحى إلى سدة الرئاسة الإيرانية. لكن يبقى علينا أن ننتظر نتائج الانتخابات الرئاسية الأمريكية فى نوفمبر المقبل، لمعرفة ما إذا كنا فعلًا على عتبة تسوية سياسية للصراع الأمريكى الإيرانى على النفوذ فى الشرق الأوسط أم لا؟ 
• • •
تقول إحدى أبرز دروس علم السياسة إن حلّ الصراعات يحصل عند بلوغها مرحلة النضج. هذا النضج يكون فى حالتين لا ثالث لهما: إما معادلة (رابح/خاسر) أو التعادل بين المتصارعين (رابح/رابح أو خاسر/خاسر). فى الحالة الأولى، يفرض القوى (بالسلاح مثلًا) حلّه على أهل السياسة. فى الحالة الثانية، يسعى الأقوياء المتعادلون (بالسلاح أو بغيره) إلى حل سياسى يستوجب تنازلات متبادلة.
الحالة الثانية تنطبق على الإيرانى والأمريكى فى منطقتنا، بعد مقارعة عمرها من عمر سقوط الشاه محمد رضا بهلوى قبل 45 عامًا، ولو نظرنا إلى خريطة الصراع في الشرق الأوسط فى يومنا هذا سنجد أن هناك قبتين فى مواجهة بعضهما البعض. القبة الحديدية الإسرائيلية مقابل القبة الصاروخية الإيرانية. قبة مقابل قبة. صاروخ مقابل صاروخ. قبتان فى المنطق الاستراتيجى تتشاركان الهدف ذاته: النفوذ الذى يقتضى تحشيد القدرات الهجومية والدفاعية والوقائية والمحافظة على توازن الردع بين اللاعبين فى الميدان نفسه.
استبدلت معارك الأرض (البر) بمعارك في السماء. صار التنافس على أشده. ذهبت إسرائيل بالتعاون مع أمريكا لتعزيز القبة الحديدية الدفاعية حتى يكون بمقدورها أن تُهاجِم ولا تُهاجَم. بالمقابل، عزّزت إيران بالتنسيق مع أذرعتها قبة صاروخية متقدمة تتحرك فى ساحة ممتدة من قلب آسيا الوسطى إلى قلب رفح. هكذا أصبح النزاع المتنامى فى الشرق الأوسط بين أهل هاتين القبتين عنوانًا أساسيًا للصراع.
أدت المبارزة بين القبتين إلى سباق تسلح انتشر على كامل رقعة الشرق الأوسط.  
أصبحت القبة الحديدية مطلبًا أمنيًا لبعض الدول العربية. المؤسف أن هذا المنطق فاقم سياسة السلاح مقابل السلاح واستمراره يعنى استنزافًا خياليًا للخزائن العربية من فائض أموالها. إضافة إلى أن إعادة نسخ أو استنساخ القبب الحديدية دونه عقبات، أهمها الخشية من إحداث تغيير جذرى فى موازين القوى، الأمر الذى يجعل إسرائيل رافضة لامتلاك أى من دول المنطقة للقبة الحديدية. بالمقابل، تستمر إيران بتطوير قبتها الصاروخية الاستراتيجية فى كل من لبنان وفلسطين وسوريا واليمن والعراق وبوظيفة متعددة الاتجاهات لكن ميزتها أنها جعلت النفوذ الإيرانى يتمدد فى طول الإقليم وعرضه، بأكلاف غير خيالية!
ويومًا بعد يوم، نشهد تنافسًا محمومًا بين القبتين من خلال جولات عديدة تُخاض على مسرح المنطقة، الأمر الذى بلغ ذروته ليل 13 ـ 14 أبريل الماضى، مع المواجهة الإسرائيلية الإيرانية الأولى من نوعها والتى كان مسرحها الفضاء الممتد من طهران حتى إيلات مرورًا بسماء العراق وسوريا ولبنان وفلسطين والأردن.
• • •
هذه المواجهة بين «القبتين» لم تكن لتكون لولا لحظة السابع من أكتوبر 2023، عندما خاضت حركة حماس معركة لساعات على أرض «غلاف غزة»، بحيث أشعرت إسرائيل بأن احتمال خوض الحروب على أرضها ما زال قائمًا، برغم تفوقها وقبتها الحديدية، وستكون كلفته عالية، بالوعى أولًا وبأبعاده العسكرية والأمنية الاستراتيجية ثانيًا.
وبالفعل، تمكنت حماس من إحداث فجوة فى القبة الحديدية الإسرائيلية، سرعان ما اتسعت مع انخراط حلفاء للحركة فى كل من لبنان واليمن والعراق بالمعركة نفسها. فجوة استراتيجية بنظر العم سام استدعت استدعاء بوارجه إلى المنطقة واستعراض ترسانته النووية، وذلك فى رسالة واضحة بأن معادلة توازن الردع قائمة بالرغم من الفجوة الكبيرة التى أصابت القبة الحديدية الإسرائيلية.
لكأننا نشهد نوعًا جديدًا من الحروب. لم تعد واشنطن تستسهل زج جيشها على أرض رخوة كما حصل فى كل من العراق وأفغانستان.. وماذا كانت النتيجة هنا وهناك؟ حركة طالبان تقيم فى قصور كابول و«الحشد العراقى» يستطيع محاصرة المنطقة الخضراء فى بغداد ساعة يشاء.
أرادت واشنطن تعادلًا عسكريًا، لكن بلا حروب برية على غرار الغزو الأمريكى للعراق ٢٠٠٣ أو احتلال الجيش الإسرائيلى لبيروت فى العام ١٩٨٢.. ولعل أبرز تعبير عن ذلك هو الشعار الرئاسى الأمريكى المتداول «No boots on the Ground». ترافق ذلك مع سعى إيرانى دءوب لتفادى أى مواجهة تستدعى استخدام القوات البرية أيضًا. هذا التعطيل للسلاح البرى، والالتزام به أفضى إلى أن منطق القوة ينحو باتجاه تثبيت قوة الردع وهيبتها.
بمعنى آخر، لنتخيل الصراع أشبه بحافلة سيارات توقفت عن الحركة بسبب فجوة فى إحدى عجلاتها. هناك حلّان أمام قائد الحافلة وركابها. إما تغيير العجلات أو وضع رقعة على الفجوة المعطلة. فى الصراع الدائر، تبدو حافلة النزاع عاجزة عن تغيير القبتين الحديدية والصاروخية. يبقى أمام أهلها البحث عن رقعة سياسية للفجوة التى أحدثتها حرب غزة. من الأصح القول بوجوب البحث عن قبة سياسية مُحصنة بكل عناصر الاستدامة الضامنة للاستقرار الإقليمى فى ظل التعادل القائم بين أهل القبتين الحديدية والصاروخية وفى ظل رسو النزاع عند معادلة لا منتصر ولا مهزوم. فلا أمريكا غيّرت النظام فى طهران ولا إيران أخرجت أمريكا من المنطقة. 
• • •
فى السابق، سعت واشنطن إلى عقد اتفاق نووى مع طهران بديلًا للمواجهة المفتوحة منذ عقود، لكن سرعان ما سقط الاتفاق لمصلحة استمرار الصراع ما دام لم تنضج ظروف التسويات بعد. 
لذا، لا بد من قبة سياسية يُمكن صياغتها من منظور إقليمى يقى المنطقة تداعيات التنافس بين القبتين الحديدية والصاروخية.
الاتفاق السعودى الإيرانى هو دليل ساطع على مقدرة دول المنطقة على صياغة بدائل عن الصراع بأشكاله كافة، وذلك من أجل تفادى الانزلاق نحو المواجهة بين أهل القبتين.
هذا الاتفاق ساهم فى وضع النزاع ضمن إطار سياسى بدلًا من التفلت فى استخدام السلاح بكل ما أنتج من تداعيات جعلت عددًا من شعوب المنطقة تدفع أفدح الأثمان. 
عند هذه النقطة يصبح التفاهم السعودى الإيرانى ركيزة أساسية لسيناريو اليوم التالى إقليميًا. بهذا الاتفاق استطاعت الرياض تحييد الخليج العربى بأكمله من تداعيات حرب غزة. فكيف إذا صنعت اتفاقًا مشابهًا له مع واشنطن؟

كاتب سعودى

 

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved