«عيون الحكمة» من روائع التراث الإنسانى
إيهاب الملاح
آخر تحديث:
السبت 13 يوليه 2024 - 8:50 م
بتوقيت القاهرة
(1)
إذا كان القول المأثور «تكلم حتى أراك» قد تطور إلى صيغة أخرى فى عصرنا هذا هى «اكتب حتى أراك».. فإننى أتصور أننا يمكن أن نخلق معادلات أخرى لها تؤدى الغرض ذاته من حيث وضوح الدلالة على عقلية ونفسية وتصور الشخص أو الجهة أو المؤسسة التى تصدر هذا القول/ هذه الكتابة، وبالتالى إمكانية النظر إليها بشكل دقيق وحكم صائب.
إذا صح هذا الافتراض، فإننى أدعى بأن مقول «انشر حتى أراك» تصدق أيضًا على ما يخرج من المطابع فى أيامنا هذه، من كتب ومنشورات تعد بالآلاف، لكن يظل من بينها أعمال تفرض قيمتها بمحتواها وبطريقة إخراجها «تصميم الغلاف والتنسيق الداخلى والشكل الطباعى» وصولًا إلى متلقيها من القراء والقارئات وقياس مدى الاستجابة لها قبولًا أو رفضًا، اهتمامًا أو لا مبالاة.. إلخ.
(2)
«عيون الحكمة» سلسلة أطلقتها مؤسسة (بيت الحكمة) للثقافة والنشر التى استطاعت فى غضون سنوات قليلة للغاية بأن تحتل مكانها فى طليعة دور النشر المصرية والعربية.. تلك المؤسسة التى بدأت تمارس أدوارًا عظيمًا فى ما بين الثقافتين الصينية والعربية؛ كأنها تمثل مجاز طريق الحرير الثقافى لا طريق الحرير الجغرافى!
النجاحات التى حققتها المؤسسة باعتبارها تشكِّل جسرًا معرفيًّا وثقافيًّا وإنسانيًّا بين ثقافتين من أعرق وأقدم ثقافات العالم «الصينية والعربية» بكل معنى الكلمة، تمارس أدوارها فى التبادل الثقافى، والترجمة، وتعليم اللغة الصينية لأبناء العربية (وأظن أيضًا العربية لأبناء الصين)،
ثم دخولها ميدان النشر الثقافى العام بقوة وعنفوان وفتوة، كل ذلك أعلن حضورها كجهة نشر احترافية فى المقام الأول، ومنافس قوى لدور النشر السابقة عليها تاريخا ونشأة، وهذا كله يثرى صناعة النشر فى بلدنا، وهى واحدة من الصناعات المهمة الدقيقة التى تحتاج إلى دعم كبير ومساندة من الإدارة الرسمية المسئولة، لأنها تمثل دائمًا وأبدًا رأس الحربة فى صياغة الوعى ونشر المعرفة والبحث عن النهوض والمستقبل.
(3)
أعود إلى «عيون الحكمة» تلك السلسلة التراثية (وتراثية هنا لا تعنى التراث بمعناه المتعارف عليه إنما المقصود ما سبق نشره ويُعاد نشره أيضًا فى إطار تلك السلسلة فهو بهذا المعنى من التراث البعيد أو الوسيط أو القريب على السواء).
لطالما كتبت وألححت فى ضرورة التنقيب والبحث عن روائع الأعمال الفكرية والثقافية والعلمية والفنية المؤلفة والمترجمة على السواء. كانت الثقافة العربية، وعلى رأسها الثقافة المصرية غاية فى النشاط والإنتاج والغزارة طيلة النصف الأول من القرن العشرين (ويمكن أن نضيف إليها العقود الثلاثة التالية الخمسينيات والستينيات وبعض السبعينيات) فترة ضجَّت بكل أشكال وألوان النشر والمعرفة والتأليف والترجمة فى كل المجالات وكل الحقول، صحيح أنه بمنطق العصر وتطور الزمن هناك مؤلفات وكتب استنفدت أغراضها وتجاوزها العلم وتطور الإنسانيات والمناهج، لكن هناك الكثير والكثير من هذه الأعمال تظل صالحة ومتجددة وتؤدى غاياتها المعرفية والإنسانية على أكمل وجه!
فمن ذا الذى ينكر قيمة ترجمة عمل إنسانى عظيم مثل «غزليات حافظ الشيرازى» وترجمة القدير إبراهيم أمين الشواربى إلى العربية، وقد قدم لها الدكتور طه حسين! من ذا الذى لا يقبل على قراءة مقالات وكتابات أحد رواد الفن التشكيلى فى بلادنا الرائد الراحل كامل التلمسانى فى كتاب بعنوان «الفن الحر»، أو يقرأ كتاب «فن القصص» لمحمود تيمور أحد آباء القصة العربية الحديثة، أو يتطلع إلى قراءة نص نادر مثل «الأدب والدين عند قدماء المصريين» لأنطون ذكرى، أو يطالع تلك الدراسة الشائقة عن «مصر والطرق الحديدية» لمحمد أمين حسونة، أو كتاب «جولة بين حانات البحر المتوسط» لعلى الدوعاجى، و«البراجماتزم» ليعقوب فام، وغيرها.
(4)
بهذا المعنى جاءت «عيون الحكمة» لتملأ حيزًا كبيرًا من هذا الفراغ بالبحث عن الكتب التى ارتبطت بحركة «التنوير الثقافى» عبر الحضارات الإنسانية، فى فروع المعارف المختلفة فى المراحل الزمنية المتعددة، الحديثة والقديمة والضاربة فى القدم، لتوفرها للقراء مع تسليط الضوء عليها عبر مجموعة من الأنشطة الإعلامية والتوعوية؛ لاستعادة الاهتمام بهذه الكتب المرجعية القيمة، وإدراجها ضمن النسيج الثقافى المعاصر.
وهذا بالضبط ما قدمته سلسلة «عيون الحكمة» الممتازة الدالة بعنوانها وعناوينها المختارة والكتب التى صدرت فى إطارها حتى الآن، أنا أحب هذه النوعية من الإصدارات، وأقدرها غاية التقدير وأجل الدور الذى تلعبه بتذكير أبناء عصرنا بجهود من سبقونا وإتاحة هذه الأعمال الممتازة بين أيديهم بعد أن طال الزمن وبعد العهد بين صدورها الأول، ووقتنا هذا!
(5)
لا بد من توجيه التحية لفريق العمل الرائع وراء هذا المشروع المهم، والذى دائمًا ما أدعو إلى تعميمه ونشره فنحن فى أمس الحاجة إلى هذه الأعمال الرائدة، وإتاحتها ونشرها لعلها تسهم فى إضاءة بعض الطريق وترقية الذوائق وتنمية الوعى.. لعل وعسى!