مشكلات الديمقراطية الوليدة في أمريكا اللاتينية

بسمة قضماني
بسمة قضماني

آخر تحديث: الخميس 13 أغسطس 2009 - 6:11 م بتوقيت القاهرة

 ها قد زرت أمريكا اللاتينية مرة أخرى. وما يدهشنى باستمرار أنه عندما يعبر المرء أكثر من نصف الكرة الأرضية يجد بلدانا ومجتمعات تبدو شبيهة ببلداننا ومجتمعاتنا. أسماء الأشخاص وملامحهم، والعلاقات الدافئة بينهم، وأسلوب المعيشة، ودور الدين فى الحياة اليومية، وفقر الضواحى الفقيرة، فى حين تطفح أحياء أخرى بالثروة، وفساد قادتها وتلوث مدنها. وجميعهم عرفوا الاستعمار الأوروبى، والتدخل الإمبريالى الأمريكى فى شئونهم الداخلية، وحكم الطغمة العسكرية الاستبدادى.

وأرى أن تجربتهم ملهمة بوجه خاص لنا فى العالم العربى. فقد نجحت هذه البلدان فى إقرار نظم ديمقراطية. لذلك، عندما أذهب إلى هناك يتردد دائما هذا التساؤل فى ذهنى: هل نحن على مسافة خمسة أو عشرة أو عشرين عاما من الوصول إلى مستويات مماثلة للمجتمع المفتوح، والديمقراطية السياسية والتنمية الاقتصادية؟ وكيف خرجوا هم من الحكم الشمولى وحققوا انتقالا سلميا إلى الديمقراطية؟ والأهم فى هذه المرة، أن اهتمامى تركز على تحديد القوى المجتمعية التى قامت بالأدوار الرئيسية فى هذا التحول. هل كانت لديهم أحزاب سياسية قوية، ومجتمعات مدنية حيوية؟ نحن نأسف لضعف الأحزاب السياسية فى العالم العربى أو غيابها. فهل هى شرط ضرورى للتحول إلى الديمقراطية؟

وفى جميع مجتمعات أمريكا اللاتينية، أدت مرحلة القمع إلى أوضاع توقفت فيها النظم الحزبية عن العمل. فالعديد من الأحزاب «تجمدت»، وتحولت أحزاب أخرى إلى العمل السرى، بينما اختفت تقريبا بعض الأحزاب. غير أن تنوع التجارب يمثل فى ذاته مصدرا للأمل. ففى بعض البلدان مثل تشيلى وأوراجواى، كانت الأحزاب السياسية بمثابة لاعبين أساسيين قبل قيام الأنظمة الاستبدادية. ولذلك كان من السهل إحياؤها، حيث عادت لتقوم بدور حاسم فى خلق التيارات الفاعلة فى المجتمع والاعتراف بها، وفى مواجهة المطالب الاجتماعية.

ولكن فى بلدان أخرى كالبرازيل، كانت الأحزاب السياسية ضعيفة حتى من قبل الحكم الاستبدادى. ومن ثم، حدثت مظاهر التعبير عن معارضة النظام الديكتاتورى ومواجهة المطالب الشعبية من خلال قوى فاعلة من خارج النظام السياسى بالأساس، كالمؤسسة الدينية، والمثقفين، أو عبر تمثيل نقابى للمصالح الخاصة.

واتسم المجتمع المدنى فى أمريكا اللاتينية بتنوع كبير فى القوى المدنية ذات الأشكال المؤسسية المختلفة (الحركات اجتماعية، والشبكات، والتحالفات، والموائد المستديرة، والمنتديات، والنقابات، والاتحادات المهنية). وهذا كله مهم لنا فى البلدان العربية، حيث لا نستطيع أن نتوقع الكثير من أحزابنا السياسية المصابة بالجفاف.

ولكنى فى هذه الزيارة دُهِشتُ، أكثر من أى مرة سبقت، وذلك بسبب الرؤية المتشائمة بوجه عام بين المثقفين، ونظرة الناس القاتمة لمستقبلهم. فالقارة الأمريكية اللاتينية تستهلكها الأمراض التى يبدو أنها تثير شكوكا فى المسار الديمقراطى الذى اتبعوه معا، ليس بسبب كونه ديمقراطيا (احذر من استخلاص الدروس الخاطئة) ولكن بسبب أوجه القصور فى النظام الذى أقاموه. فأولا؛ ناضلت المجتمعات من أجل الحصول على الحقوق المدنية والسياسية، بينما كانت تطبق إصلاحات اقتصادية هيكلية مبنية على نمط الليبرالية الجديدة.

وأدت خطط التكيف الهيكلى إلى نمو هائل لسوق العمل الموازية. ولم يكن لدى جماهير واسعة من العمال غير الرسميين منظمات تمثلهم وتدافع عن مصالحهم. وتراجعت النقابات من حيث نفوذها، ومن حيث عدد المنتسبين إليها. وضعفت الأشكال المختلفة للتضامن.

وكانت النتائج مدمرة؛ إذ زادت البطالة بمعدلات ضخمة لتصبح من أعلى معدلات البطالة العالمية، بينما صار الفقر وعدم التكافؤ فوق الاحتمال، ما فاقم الصعوبات بالنسبة لكل من النظام السياسى والأحزاب. وأدى ذلك إلى فقدان شرعية الحكومات، والسلطة التشريعية، والقضائية؛ وتزايد ضعف المنظمات الاجتماعية؛ وتراجع القيم المعنوية للأيديولوجيات والأحزاب.

وصارت معدلات الجريمة هى الأعلى فى العالم، وأصبحت الشبكات الإجرامية أقوى من الدول لأنها تستطيع تجنيد المواطنين المحرومين البؤساء برواتب أعلى مما تقدمه الحكومات. وتمثل هذه الشبكات لتهريب المخدرات، والأسلحة، والأموال، والبشر تحديا لنظام اجتماعى ظالم، ولنظام الدولة.

وقبل نحو ستة أسابيع، شهدت هندوراس عملية انقلاب. وبدلا من أن يرى المراقبون فى ذلك حدثا استثنائيا نجُم عن موقف خاص، اعتبروه انعكاسا لأزمة الديمقراطية فى القارة.

لقد ذهبت للبحث عن إلهام، لكننى عدت لأفكر فى الرسالة التى سمعتها: إن إعادة ضخ السياسة فى الحياة العامة عبر المواطنين النشطين والمنظمات ضرورة مطلقة. وبدون ذلك لا يمكن أن يحقق أى قطاع ازدهارا دائما. غير أن الأمريكيين اللاتينيين يقولون لنا «إن الديمقراطية السياسية دون ديمقراطية اقتصادية واجتماعية أدت بنا إلى حافة هاوية عميقة. لابد أن تضمن أن مشروعاتك الديمقراطية تشمل الطبقتين الدنيا والمتوسطة وإلا فسوف تقع هاتان الطبقتان فريسة للإغراءات. ويمكن أن تكون هذه الإغراءات شبكات إجرامية (لدينا نسختنا من هذه الشبكات) أو الخطاب شعبوى الملامح الخالى من القصد الديمقراطى.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2025 ShoroukNews. All rights reserved