صدام الحريات في فرنسا بين السوق والفرد
ياسمين فاروق
آخر تحديث:
الجمعة 14 أغسطس 2009 - 2:26 م
بتوقيت القاهرة
أيهما افضل ولماذا..؟
يجعلنى هذا السؤال أبتسم. ففى فترة الدراسة الابتدائية وحتى الثانوية العامة، لا يكاد يخلو أى امتحان فى أى مادة أدبية من هذا السؤال. فهذا السؤال يفترض به أن يكون نافذة الإبداع ــ الذى هو منعدم أصلا فى التعليم الأدبى فى مصر ــ للطالب.
وليس مجال حديثى هنا عن التعليم المصرى بل عن الحدث الذى ذكرنى بهذا السؤال. ويرجع هذا الحدث إلى النمط العجيب من الإضرابات فى الجمهورية الفرنسية! فبالرغم من أن هذا الشعب يمتلك شتى القنوات الرسمية للتعبير عن الرأى والمشاركة السياسية فإن الاحتجاج بالإضراب عن العمل فى فرنسا هو بلا نقاش إحدى أهم العادات والتقاليد الموروثة لدى الشعب الفرنسى والمتأصلة فيه. فالنقابات والجمعيات العمالية والأحزاب اليسارية تنشط بكثافة فى المجتمع الفرنسى وهى بمثابة الموازن الفعلى لسيطرة الحزب اليمينى الوسطى الحاكم بالانتخابات الديمقراطية الحرة طبعا على الحكومة وعلى غالبية مقاعد البرلمان. ولا يمكن أن يتم التصديق على قانون فى البرلمان ولا أن تتبنى الحكومة سياسة داخلية إلا وتجد لهذه المنظمات التى تجسد المعنى الحقيقى لمصطلح المجتمع المدنى موقف منها. إذا لم تكن هذه المنظمات راضية عن القانون أو السياسة المعنية.. فالويل للحكومة.. وللشعب! حيث يصبح الإضراب العام والتظاهر المتحضر والسلمى تارة والعنيف تارة أخرى وسيلة التعبير الأولى عن الاحتجاج حتى لنواب المعارضة فى البرلمان الفرنسى الذين ينزلون إلى الشارع مع المضربين.
وأخطر هذه الإضرابات هى التى تشارك فيها نقابات عمال شبكة النقل وشبكة السكك الحديد الفرنسية حيث يتم شل مدن فرنسا خاصة العاصمة باريس ويصبح العمل والإنتاج مستحيلا. والطريف ــ وشر البلية ما يضحك ــ هو أن مختلف فئات الشعب الفرنسى تعلمت كيفية التأقلم مع الإضرابات العامة. فالبعض يلجأ إلى المشاركة فى دفع بنزين سيارة الجار ليقله إلى عمله، والبعض يلجأ إلى الاحتفاظ بدراجة فى الجراج أو إلى حجز واستئجار دراجة، والبعض يلجأ إلى المبيت فى فندق أو نصب خيمة بجوار مقر عمله! وهذه الإبداعات تخص طبعا القلة القليلة من الطبقة الوسطى والدنيا ــ الخونة! ــ الذين يرفضون أو لا يستطيعون الاشتراك فى الإضراب. ويتحول الإضراب العام فى معظم الأحيان إلى مناسبة للتنديد بالفوارق الاجتماعية والاقتصادية بين فئات المجتمع الفرنسى وللهجوم على مؤسسات النخبة الفرنسية.
وحيث إن فرنسا لا يمر فيها أسبوع إلا وتجد جهة معينة تنظم إضرابا عن العمل إلا أن الإضراب الذى تشترك فيه شبكتى النقل والسكة الحديد يظل الأكثر تأثيرا. وليس من الغريب أنه منذ وصل ساركوزى إلى سدة الحكم كان أول مشروع قانون يقدمه للبرلمان هو ذلك الخاص بتنظيم وتقنين الإضراب العام فى فرنسا. ومع تبنيه أصبح على الجهات المشاركة فى الإضراب ــ خصوصا شبكتى النقل ــ أن تنشر أسماء المضربين عن العمل مسبقا ويصبح محظورا على من لم يرد اسمه الاشتراك فى الإضراب لاحقا. كما أجبر القانون شبكة المواصلات على ضمان حد أدنى من الخدمة أثناء فترة الإضراب. وأتى هذا القانون بمثابة المنقذ للمقيمين فى باريس خاصة من الأجانب سياحا كانوا أو مقيمين دائمين. والواقع أن باريس، إلى جانب كونها الموجهة الأولى للسياح على مستوى العالم، فإن عددا كبير جدا من سكانها أجانب بين طلبة وموظفين وأعضاء بعثات دبلوماسية. وكل هؤلاء تُشَل حياتهم أثناء الإضرابات ومعظمهم يضطر إلى دفع أجرة التاكسى الباهظة ذلك إذا صادفهم حظ العثور على تاكسى أساسا. وفى بعض الأحيان يمتد الإضراب العام فى فرنسا عدة أيام وأسابيع ومرات قليلة إلى شهور.
وبالحديث مع بعض الأجانب المقيمين فى فرنسا، تبين لى أن معظمنا يتهم الفرنسيين بالمبالغة بل والتعسف فى استخدام حقى التعبير عن الرأى وتنظيم الإضرابات عن العمل. وهذا الرأى طبعا نسبى وخارجى ويختلف عن رأى أصحاب الشأن من الفرنسيين. ولكن المشكلة هى أن الطبقة الوسطى من الشعب الفرنسى أحيانا تأخذها الحماسة ويصبح معدل الإضراب لديها يوميا! فيوما ينظم الأطباء إضرابا بهدف رفع الأجور، واليوم التالى ينظم موظفو الخطوط الجوية الفرنسية إضرابا لنفس السبب، واليوم الذى يليه تجد إضرابا لسائقى المترو احتجاجا على اعتداء راكب على أحد زملائهم، واليوم التالى يضرب مدرسى المدارس احتجاجا على تغيير نظام التعليم ! وهذا ناهيك عن الإضرابات التى تأتى احتجاجا على السياسات الداخلية للحكومة أن هى مست الدور الاجتماعى والاقتصادى المتضخم للدولة. وسأضرب ــ لكن ليس على طريقة الفرنسيين! ــ مثال مهم جدا على ذلك بموجة الإضرابات العامة عن العمل التى شملت جميع مدن فرنسا من فبراير وحتى أبريل ٢٠٠٦ وكانت سببا فى إقصاء رئيس الوزراء ووزير الخارجية الأسبق دومينيك دوفيلبان عن العمل السياسى. فقد أراد دوفيلبان أن يجد حلا لارتفاع نسبة البطالة بين الشباب حديثى التخرج من الجامعات الحكومية (٢٢٪) بأن يشجع رجال الأعمال وأصحاب الشركات المتوسطة والكبيرة على تعيين عدد أكبر من هؤلاء الشباب فى مقابل تقييد الحقوق المادية للشباب فى حالة الاستغناء عنهم خلال السنتين الأولى والثانية من استلام العمل. فيصبح مثلا من حق صاحب العمل الاستغناء عن الشاب أو الشابة حديث التعيين مع تقليل حزمة الالتزامات القانونية والمادية تجاه الشاب المرفود والتى يفرضها قانون العمل الحالى مع التزام الحكومة بتوفير إعانة البطالة للشاب. وقد كان أصحاب الشركات فى فرنسا هم أهم مشجعى هذا القانون حيث أقروا بأن العواقب القانونية والمادية مع ضرورة إيجاد مبرر مقبول قانونا للرفد وإعطاء إنذار مسبق بفترة كافية تجعلهم يفضلون تعيين أشخاص ذوى خبرة وأحيانا إلى تدوير الموظفين السابقين اللذين تكون الإدارة مطمئنة إلى مستوى عملهم وإلى رغبتها ورغبتهم فى الاحتفاظ بوظيفتهم لفترة طويلة من الزمن.
وكرد فعل على مشروع القانون قامت منظمات المجتمع المدنى ولم تقعد فى فرنسا لمدة ثلاثة شهور كاملة! وبعد أن حاول دوفيلبان بمساندة من الرئيس شيراك أن يقاوم قوى الشعب وأن يستخدم صلاحيته الدستورية فى استثناء القانون من التصويت فى البرلمان الذى انقسم على نفسه، اضطر إلى أن يستسلم فى رأى لينقذ فرنسا من نفسها. فخلال شهور الإضراب الثلاثة تعطلت بعض المصالح الحكومية وجامعات فرنسا الكبرى وحدثت مصادمات عنيفة بين الطلبة المضربين وزملائهم الذين حاولوا استئناف الدراسة وبينهم وبين قوات حفظ النظام. كما أنه خلال هذه الشهور الثلاثة تم شل شبكة النقل والمواصلات لعدة أيام متتالية ووصل حجم الخسائر الاقتصادية نتيجة لتعطيل الإنتاج على مستوى الدولة إلى عدة ملايين. وبعد أن استسلم دوفيلبان وانتهت الأزمة ظل السبب الأصلى لها قائما. فلا تزال مشكلة بطالة شباب الخريجين قائمة مع تزايد أعدادهم وعدم القدرة على التوصل إلى حل يرضى جميع الأطراف.
وبالطبع خرجت النقابات العمالية من هذه الأزمة وهى تشعر بقوة سيطرتها على الشارع فى مواجهة الدولة وتأكد الإضراب العام كأكثر الوسائل فاعلية فى الضغط على الحكومة. وتأكد هذا الشعور مجددا خلال شهرى أبريل ومايو من العام الجارى حيث أضرب عشرات الآلاف من الفرنسيين وتظاهروا لعدة أيام للاعتراض ــ كالعادة ــ على سياسات الحكومة فى مواجهة الأزمة الاقتصادية. بل ووصل الأمر اليوم إلى أن العمال والموظفين الفرنسيين دون غيرهم من العالم كله يأخذون رب العمل ومجلس الإدارة رهائن فى مقر العمل لعدة ساعات إلى أن يلتزم هؤلاء أما بالتوقف عن تسريح العمال أو بضمان كل حقوقهم الاقتصادية ومكافآت نهاية الخدمة كاملة إلى جانب دفع تعويضات للمرفوضين وذلك بالرغم من الخسائر التى خلفتها الأزمة الاقتصادية على الشركات. ولكى تزيد الطينة بلة، أضرب وتظاهر طلبة ومدرسى التعليم العالى فى نفس الفترة احتجاجا على الإصلاحات التى بدأتها الحكومة والتى تهدف إلى استقلال الجامعات عن الدولة مما سوف يؤدى إلى ارتفاع مصاريف التعليم العالى فى فرنسا.
تجعل هذه الحركات الاجتماعية الأجنبى المقيم فى فرنسا حائرا بين أمرين هما دفعانى إلى السؤال عنوان هذا المقال. من جانب، يحترم المرء الوعى السياسى لهذا الشعب، هذا الوعى الذى نما عبر قرون من الزمان جاهدت فيها جميع طبقات الفرنسيين من أجل فرض احترام حقوقها الاقتصادية والاجتماعية وحرية التعبير عن رأيها على الجمهوريات والحكومات المتعاقبة حتى أصبحت هذه الحقوق والحريات جزء لا يتجزأ من مبادئ الجمهورية الفرنسية. ومن جانب آخر، فإن المبالغة و«إساءة استخدام» هذه الحقوق قد تسببت فى شلّ تطورات سياسية واجتماعية واقتصادية كبيرة كانت لتجعل نظام الدولة والمجتمع فى فرنسا أقل تعقيدا وأكثر قدرة على التكيف والتقدم. وقد استفز هذان الشعوران تساؤل كان فى بدايته ساخرا بداخلى : هل الأفضل هو ما تعيشه بعض الدول الديمقراطية والسلطوية على حد سواء من تقنين شديد جدا للإضرابات والمظاهرات العارمة بحيث يكاد القانون وصاحب العمل يعاقب من يضرب عن العمل؟ أم الأفضل هو السماح المطلق بمثل هذه الأفعال باعتبارها من ضروب حرية التعبير عن الرأى والمشاركة السياسية بحيث يصبح من حق كل مواطن فى الدولة أن ينظم أو يشارك فى إضراب لأى سبب كان ولأى مدة ممكنة؟... أيهما أفضل؟ ولماذا؟