استدعاء الوهم
سامح فوزي
آخر تحديث:
الأربعاء 13 أغسطس 2014 - 8:00 ص
بتوقيت القاهرة
عاد الإعلام مرة أخرى إلى الانشغال بالمعارك الوهمية، وشغل الناس بها على حساب القضايا الأساسية. فى عهود سابقة كان إلهاء الرأى العام بالتوافه تكتيك يجرى اللجوء إليه كلما كان هناك خطب جليل يُراد صرف الأنظار عنه على غرار الطريقة التى وصفت «بالأمريكانى» فى فيلم «الهروب»، أما الآن فلا أعرف سبب التركيز المفرط على المعارك الوهمية، هل هو إفلاس إعلامى أم إعادة انتاج للأساليب التى كانت متبعة فى السابق؟
فى الأسابيع الماضية انجرف النقاش فى المجتمع إلى معركة «عذاب القبر»، ثم «توجيهات الحشمة» التى نُسبت إلى الأنبا بيشوى، ورأى نسب لداعية بجواز تلصص الخطيب على خطيبته أثناء الاستحمام، وأخيرا الجدل حول «صحيح البخارى»، وخاضت وسائل الإعلام المرئية والمقروءة بكثافة فى هذه الموضوعات، بين مؤيد ومعارض، وكثر الصخب، وتعالى الصراخ. بالمناسبة أمثال هذه القضايا كانت حاضرة فى الإعلام خلال التسعينيات، والعقد الأول من الألفية الجديدة، وكانت ملتهبة، صاخبة، ثم فجأة توارت حتى استيقظت مؤخرا، وحتى تكتمل الصورة تلقى مكتب النائب العام بلاغا ضد إعلامى بتهمة الارتداد عن الإسلام، مطالبا بتفريقه عن زوجته، فى صورة كربونية لما كنا نشهده قبل ثورة 25 يناير.
أليس لافتا أن المجتمع الذى تحاصره ضغوط اقتصادية، وتشغله تطلعات تنموية خاصة بالمشاريع الكبرى التى يجرى إطلاق شرارتها الأولى، وتهدده مخاطر إرهابية، وتموج حدوده من كل جانب بتهديدات وتحديات، تطفو على سطح الإعلام فيه مساجلات صاخبة، تنتقل بدورها إلى الفضاء الالكترونى المضطرب، وتصبح معارك مصر الأساسية ليست التنمية والديمقراطية، ولكن عذاب القبر، والثعبان الأقرع، وتوجيهات الأنبا بيشوى، والجدل حول «صحيح البخارى».
فى الأمر خطأ بالتأكيد، سببه لا أعرفه. قد يكون فى الأمر إفلاس إعلامى، وعدم قدرة الإعلاميين على طرح قضايا حقيقية يحتاج المجتمع المصرى للنقاش حولها، وقد يكون فى المسألة برمتها نية مبيتة للانشغال بقضايا وهمية فى تتابع زمنى، قضية تلحق بأخرى دون إخلال بقواعد التوازن المعتاد فى الشأن الدينى بإطلاق مساجلات إسلامية وأخرى مسيحية.
توافه الأمور لا تبقى، وإلا فلماذا تتوارى دائما قضايا عديدة لأهل السياسة والفن بعد اشتعالها لفترة زمنية؟. إذا كان الإعلام يتطلع بالفعل لنهضة المجتمع المصرى، فإن هناك أجندة ينبغى أن تكون محل اهتمام إعلامى مثل مشروعات التنمية، إصلاح المؤسسات العامة، الحقوق والحريات العامة، مواجهة الإرهاب دون مساس بحقوق الإنسان، تطوير التعليم، والصحة، والتدريب، بهدف الارتقاء بالعنصر البشرى، فتح باب النقاش حول برامج الأحزاب ورؤاها لمستقبل البلاد، المشاركة الشعبية، وتدعيم التنوع والتعددية، ومبادئ الحكم الرشيد من مساءلة، وشفافية، وحكم قانون، وتطوير الإدارة العامة، تمكين الفئات المهمشة، ومواجهة الانتهاكات التى تتعرض لها المرأة، والأطفال، والتصدى للتمييز والتعصب فى المجتمع، الخ.
هذه عينة من القضايا التى يحتاج المجتمع المصرى إلى نقاش عقلانى وموضوعى ومعمق حولها، وليست معارك الوهم التى لا تبنى وعيا، ولا تصنع ثقافة، ولا تدفع فى اتجاه تقدم.. فقط ترفع منسوب التوتر، والغضب، والترصد فى المجتمع.