القاهرة: مدينتى وثورتنا (٢٨)
أهداف سويف
آخر تحديث:
الخميس 13 أغسطس 2015 - 9:15 ص
بتوقيت القاهرة
الموجة الثانية
شارع مجلس الوزراء: ١٦ إلى ٢٢ ديسمبر ٢٠١١
يوم ٢٤ نوفمبر أعلن المشير محمد حسين طنطاوى أنه طلب من الدكتور كمال الجنزورى تولى رئاسة الوزارة وكلفه بتشكيل حكومة، وكان الدكتور الجنزورى قد رأس الوزارة فى عهد حسنى مبارك من عام ١٩٩٦ إلى ١٩٩٩، فرأى الشارع هذا القرار دليلا على إفلاس أفكار المجلس العسكرى، وقابله بموجة عاتية من التهكم، وامتلأ الإعلام الثورى والفضاء الإلكترونى بقصص عمليات الخصخصة التى تمت على يدى الدكتور الجنزورى. يومها عبرت الميدان مرة وراء مرة ولم أسمع كلمة واحدة لصالح هذا الترشيح. وبحلول المساء كانت محموعة من الثوار قد نصبت الخيام أمام بوابات مبنى رئاسة الوزراء فى شارع مجلس الأمة لتمنع رئيس الوزراء الجديد من الوصول إلى مكتبه المفترض. وهكذا، بدأت انتخابات البرلمان فى أنحاء البلاد واعتصام جديد يبدأ فى شارع البرلمان بينما اعتصام التحرير مستمر إلى جواره.
كان الجيش قد سيطر على ميدان التحرير حين فض المجلس العسكرى «اعتصام يوليو»، فكان المجندون يقفون فى دائرة حول الصينية فى وضع انتباه، وظلوا هكذا طوال شهر أغسطس بشمسه الحارقة. وكنا نتذكر وقفتهم المشابهة على جوانب الطرق فى حراسة/ تشريفات حسنى مبارك إذا أجبره ظرف على المرور فى شوارع العاصمة. ظل الوضع على هذا لعدة أسابيع ثم انسحبت القوات وتحولت القيادة إلى وسائل الديمقراطيات الأكثر خباثة: إن كان التحرير هو «كعبتنا» ورمز ثورتنا ــ فلنأخذه ونهنأ به؛ ستظل الكهرباء فيه معطلة، ولن تعمل إشارات المرور، سوف يتم اختراقه، وستوجد فيه المخدرات وكل المواد المحرمة، سيثير البلطجية المشكلات مع السكان وأصحاب الأعمال، وسينزعج الإعلام ويطيل الحديث عن حالة الحقارة التى آلت إليها الثورة وكيف يعج التحرير بالمخدرات والدعارة وكيف أن شباب يناير، «شباب الثورة الطاهر»، قد هجر التحرير وأن من فى التحرير اليوم هم البلطجية والعملاء ــ عملاء أعداء مصر. سيتم تلويث الميدان، وتلويث الثوار، وتلويث الثورة ــ مع التظاهر دائما بتمجيد الكل.
وبدأت الرسالة تصل إلى الناس: صار الميدان مسئولا عن الاقتصاد الذى يزداد بؤسا، عن الأمن المنفلت، عن الزحمة المرورية، عن كل المشكلات التى يعانى منها الناس. حاولنا أن نفض اعتصام التحرير ونخرج إلى الناس بحملة معلومات وعلاقات عامة للميدان. حاولت مجموعة منا أن «تكون الثورة» وتجسد رؤيتها فى المخيم الصغير الواقع فى حضن مبنى المجمع وامتداد شارع قصر العينى. تحولت إحدى الخيام إلى عيادة وأخرى إلى مركز لأنشطة الأطفال. اجتمعنا بذوى الخبرة من العاملين بجمعيات أطفال الشوارع لنرى ما يمكن أن نقدمه للأطفال، كانت أعلام مدن مصرية مختلفة ترفرف فوق المخيم وطلبنا من خطاط أن يرسم لنا خمسة بانرات كبيرة تعلن مطالب الاعتصام، وهى، كالمعتاد: دعم ومساندة المصابين، تطهير وإعادة هيكلة الداخلية، تطهير وإعادة هيكلة الإعلام، وأضفنا لها «التحقيق فى أحداث شارع محمد محمود» و«رفض وزارة الجنزورى الرجعية».
لكن يوما بعد يوم الفوضى تتغلب فى التحرير: تشب الخناقات بين «ثوار» و«باعة جائلين»، كل فريق يتهم الآخر بالعمالة والاختراق. لا أحد يعلم يقينا من يقوم بتأمين الاعتصام. نكوم الزبالة بشكل مرتب ولكن لا أحد يأتى ليجمعها وتنتشر فى المنطقة رائحة كرائحة المراحيض المهملة. تظهر شخصيات درامية غريبة، لها أتباع ومساعدون، وتنصب الطاولات عليها الموبايلات والسجائر وتتخذها مقار شبه رسمية. تكتشف منى «سجنا» فى التحرير، حيث يحتفظ ثوار بناس يقولون إنهم لصوص. ليلى وسناء وشريف برعى يهبون لنجدتهم ويقضون الليلة كلها يتجادلون مع حراسهم إلى أن ينجحوا فى إطلاق سراحهم. لكن هذا النمط من التعامل بدأ، وسيستمر. أصبحت إحدى مهام سناء، والتى فرضتها على نفسها، أن تجلس حارسة للمحبوسين حتى لا يؤذيهم أحد. أحيانا كانت مفاوضاتها تنجح فى كسب الحرية لأسير، وأحيانا كان الرؤساء المسئولون يحررون بعض الأسرى كهدية خاصة لها. كميات ضخمة من الأدوية والمعدات المتبقية من المستشفيات الميدانية والمخزنة فى جامع عمر مكرم أصبحت تمثل مشكلة: البعض يتهم الجامع بالاتجار فيها، والبعض يقول إن الجامع يدفع الأدوية أجرا للبلطجية الذين يحمونه. جاءت الدكتورة منى مينا بفريق من الأطباء الشباب دخلوا إلى المخازن وقاموا بجرد كل الموجود فيها وكان القرار نقل الأدوية والمعدات إلى نقابة الأطباء.
الشارع يريد الميدان مفتوحا. أبومهاب والناشطون من المصابين وأهالى الشهداء يحاولون المرة تلو المرة إنهاء الاعتصام، أو تحديده فى مساحة المخيم المجاور للمجمع حتى تتمكن السيارات من المرور فى الميدان بشكل عادى. والمرة وراء المرة يغلب رأى من نصبوا أنفسهم «أمن» الميدان فيستمر الاعتصام ويستمر الميدان مغلقا.
• من مقالى فى جريدة الشروق الأربعاء ٧ ديسمبر ٢٠١١
الجمعة
بعد الصلاة نمشى فى مسيرة «رد اعتبار شهداء محمد محمود»، من جامع مصطفى محمود إلى التحرير، والشارع ينثر تعاطفه علينا.
وفى المساء أجد نفسى فى اجتماع فى خيمة مع مجموعة من الثوار المعتصمين، الكل قلق على أحوال الميدان لكنه رافض تعليق الاعتصام، ويبحث عن آلية تمكنه من الاستمرار ــ مع تحييد الأخطار التى تتربص به. والأخطار أخطار جسدية تتمثل فى وجود البلطجية والمزقوقين فى قلب الميدان والأزمات والخناقات العديدة والمتباينة التى يتسببون فيها، ووجود قوات الأمن على حدود الميدان، لكن الأهم هى الأخطار المعنوية: فالميدان يفقد تعاطف الشارع، الميدان مخترق، يمرح فيه البلطجية ومن يشتبه فى أنهم مبعوثون من طرف أجهزة الأمن، ويباع فيه الترامادول وتقوم فيه المعارك، والخطاب الرسمى يصور كل هذا على أنه من فعل الثوار الراغبين فى الفوضى فى وقت اتجه فيه الشعب إلى الانتخابات. الخطاب يحاول عزل الميدان عن عموم المصريين وتوجهاتهم ومصالحهم، وما يلتصق اليوم بالميدان يلتصق بـ«الثورة» كلها.
الحل إذن فى إثبات انتماء الميدان إلى جموع المصريين، والعمل على استدامة تلك العلاقات التى تتكون فيه فى أيام الحشد. لنفتح الميدان للسيارات إذن، ولنستمر فى الاعتصام فى جانب منه فقط، مع إعلان واضح عن موقفنا، صار هذا هو الرأى السائد عند أغلبية الحضور.