حتى لا يذهب قرض الصندوق هباء
إبراهيم عوض
آخر تحديث:
السبت 13 أغسطس 2016 - 9:55 م
بتوقيت القاهرة
الاقتصاد الشغل الشاغل فى مصر. كيف لا، وقد خسر الجنيه المصرى ما يربو على نصف قيمته خلال شهور معدودة وارتفعت الأسعار على المواطنين نتيجة لذلك، وقل المتوفر من الدواء، وارتفعت تكلفة مدخلات الإنتاج المستوردة، فانكمش الطلب عليها وأغلقت مصانع أبوابها وفقد عمال وظائفهم. زد على ذلك فرض الضريبة على القيمة المضافة، ثم الإعلان عن رفع أسعار الكهرباء وما يؤديان إليه من مزيد من ارتفاع تكاليف المعيشة على مواطنين يعيش 27% منهم، حسب البيانات الرسمية، تحت خط الفقر. ودعك من إجراءات سبقتها بخفض الدعم عن بعض السلع الغذائية والمنتجات النفطية.
المهتمون بالشأن العام من متخصصين وغير متخصصين، يعرفون بالأسباب فى دقائقها أو فى خطوطها العريضة. يعلمون عن كارثة المالية الداخلية والخارجية للبلاد، عن المعدلات المرتفعة لنمو العجز فى الميزانية، وعن ارتفاع الدين العام الداخلى والخارجى أيضا بمعدلات غير مسبوقة فى السنوات الأخيرة، وعن خدمة الدين التى تستنزف ثلث الإنفاق العام، وعن الانخفاض المستمر فى الإيرادات من العملات الأجنبية، وهو الذى يؤدى فى حقيقة الأمر إلى انخفاض قيمة الجنيه وارتفاع تكلفة الواردات، بما فيها مدخلات الإنتاج، مسببا ارتفاع تكاليف المعيشة من جانب، والبطالة والفقر من جانب آخر.
للتعامل مع هذه الكارثة التى لابد أن تهدد الاستقرار الاجتماعى والسياسى فى أى بلد، استعانت الدولة بصندوق النقد الدولى ليقرضها عملة أجنبية تساعدها، وهذا هو جوهر السعى للحصول على القرض، على تغطية احتياجاتها الاستيرادية حتى لا يعتل النشاط الاقتصادى بأكثر مما هو معتل أصلا، وكذلك، وربما قبل ذلك، لضمان تمويل وارداتها الغذائية وفى مقدمتها القمح. ليست خافية على أحد الأهمية السياسية لتوفر الغذاء وبأسعار فى متناول المستهلكين.
ليست معروفة تفاصيل البرنامج المالى المتفق عليه بين السلطات المصرية وصندوق النقد الدولى. ولكن عند الإعلان عن الاتفاق وعن مبلغ القرض وهو 12 مليار دولار يقدم على ثلاث سنوات، حددت أهدافه بأنها تحسين أسواق العملة، وتقليص عجز الموازنة، وخفض الدين الحكومى. بشأن عجز الموازنة، أعلن أن المستهدف هو الانخفاض به من 98% من الناتج المحلى الإجمالى فى السنة المالية 16ــ2015 إلى 88% فى 19ــ2018. أما معدل التضخم، فالمستهدف هو الانخفاض به إلى ما دون 10%. فى حد ذاتهما، هذان هدفان لا يمكن لأول وهلة الاعتراض عليهما. الصندوق والدولة يدركان عدم كفاية القرض لسد احتياجات مصر. المتحدث باسم الصندوق دعا لذلك أصدقاء مصر إلى مساعدتها، ومحافظ البنك المركزى تحدث عن الثقة التى يبثها الاتفاق وعن الاستثمارات الأجنبية الكبرى التى ستنشأ عنه، لأن مصر، حسب كلامه، لن تنمو بالاستثمارات المحلية وحدها. هذا الخطاب والبرنامج المتفق عليه يستدعيان بعض التعليقات السياسية ثم الاقتصادية ومن بعدها السياسية من جديد.
***
المواطن يشعر بنوع من المهانة وهو يقرأ أن المتحدث باسم الصندوق، يدعو إلى مساعدة مصر. ليس على المتحدث تثريب فهو لابد قال ما قاله «بحسن نية» وبرغبة صادقة فى مساندة مصر، ولكن الدعوة ترن وكأن مصر كيان عاجز. فلتكن المغفرة من نصيب المسئولين عن النظام السياسى الحقيقى بصيغه المختلفة التى توالت على مصر على ما اقترفوه فى حق اقتصاد البلد وأهله. محافظ البنك المركزى جديد فى موقعه، ولكنه عنصر من عناصر النظام السياسى. هذا النظام فى صيغته التى كان يسودها المجلس العسكرى رفض فى سنة 2011 عقد قرض بثلاثة مليارات دولار، بدعوى تأثيره على استقلالية القرار الوطنى وعلى سيادة مصر!
ما الذى حدث فى أربع سنوات لكى تتخذ الصيغة المعدلة لنفس النظام السياسى قرارا بالاتفاق على قرض يبلغ أربعة أمثال مشروع قرض سنة 2011 ولتعتبره، على لسان المحافظ، شهادة ثقة فى الاقتصاد المصرى؟ هل هو تغيير رأى نظرى، أم هو رضوخ لضغوط الحاجة، أم أن لا أساس مدروس لهذا الموقف ولا لذاك؟
مما أعلن عنه، وبشكل عام، فإن أغلب الظن هو أن القرض يسعى إلى تحقيق أهداف السياسة النقدية بتوفير عملة أجنبية لها تمكنها من وقف انهيار الجنيه المصرى والتضخم الناتج عنه، من ناحية، ومن توفير التمويل للاستيراد الضرورى تماما، من ناحية أخرى. أما السياسة المالية فهى بضغط النفقات وزيادة الإيرادات العامة الضمان التى يريده الصندوق حتى يقرض العملة الأجنبية للبنك المركزى، فيتمكن من تحقيق أهداف السياسة النقدية. هذا يعنى أن التوجه نحو تحقيق التوازنات الداخلية والخارجية بخفض العجز فى الميزانية وفى ميزان الحساب الحالى، هو كل ما يعنى الاقتصاد المصرى.
التساؤل يثور: مع التسليم بضرورة السيطرة على العجز فى الميزانية، هل يمكن حقا النزول به 10% نسبة إلى الناتج المحلى الإجمالى فى فترة ثلاث سنوات فقط مع معدل لنمو السكان يتعدى الـ2%؟ وزير المالية تحدث عن الدعم الذى يذهب إلى غير مستحقيه، ولكن هل فى الإنفاق على الدعم وحده متسع لخفض الميزانية بهذه الدرجة خلال ثلاث سنوات؟
***
تجربة دول عديدة منها مصر فى العقود الماضية تبين أن خفض العجزين الداخلى والخارجى، وكذلك ضبط الأسعار وتخفيض معدلات التضخم، بل وتحقيق معدلات معقولة تماما من النمو الاقتصادى ليس كافيا لتحقيق الهدف الأسمى والنهائى للنشاط الاقتصادى، ألا وهو تلبية احتياجات الناس، وتحسين نوعية حياتهم. فى سنة 2008، حققت مصر 7,3% كمعدل نمو اقتصادى ومع ذلك ارتفع معدل الفقر فى البلاد وبقيت معدلات البطالة العامة وبطالة المرأة والشباب والمتعلمين تعليما عاليا ومتوسطا على ارتفاعها وهو ارتفاع هائل فى الحالات الثلاث الأخيرة. أى برنامج «للإصلاح» الاقتصادى سواء اتفق عليه مع الصندوق أو وضعته دولة ما من تلقاء نفسها لابد أن يكون التشغيل فى القلب منه. التشغيل يلعب الدور الأساسى فى حدوث النمو وفى الوقت نفسه فى توزيع فوائده على قوة العمل وعلى المواطنين. انتظار أن يحدث النمو أولا ثم توزيع فوائده من بعد خداع للنفس وللناس لأن المنهج المتبع لتحقيق النمو هو الذى يحدد طريقة توزيع فوائده.
هل يطال تخفيض النفقات العامة خدمات التعليم والصحة وتوفير الإسكان؟ التعليم لا يتحمل أى تخفيض مطلق أو نسبى فى متوسط الإنفاق على التلميذ أو الطالب الواحد، بل إن الدستور يلزم الدولة بزيادة الإنفاق عليه وعلى الصحة العامة. البرامج التى تتفق عليها الدول مع الصندوق تشجع دائما الصادرات كثيفة اليد العاملة قليلة المحتوى المعرفى وحدها، وهو ما ثبت عدم سلامته مرة بعد أخرى لأن مثل هذه الصادرات منخفضة الإنتاجية منخفضة القيمة، وبالتالى تقصر عن تغطية تكلفة الواردات ثم لأنها تولد طلبا على اليد العاملة منخفضة المهارة أو متوسطتها، ما يؤدى إلى انخفاض الطلب على اليد العاملة الماهرة، فتبقى معدلات بطالة المتعلمين تعليما عاليا، بل ومتوسطا، مرتفعة. هل أخذت المسائل السابق ذكرها فى الاعتبار فى أثناء التفاوض مع الصندوق؟ هذا يثير موضوع التفاوض برمته. هل شارك فى فريق التفاوض، أو فى التحضير لعملية التفاوض، مسئولون عن التخطيط والتعليم والتجارة وغيرها؟ أما وإن الأرجح أنهم لم يشاركوا، فلابد من تدارك ذلك، إن أمكن هذا التدارك وهو ما نرجوه، عند التنفيذ بتوزيع مخصصات الميزانية بشكل يؤدى إلى تلافى نتائج سلبية للبرنامج على التشغيل والتعليم والصحة والإسكان فضلا عن السلع الغذائية. إن لم يحدث ذلك، فلقد يستهلك القرض دون أن يتحقق الهدف الأسمى والنهائى لأى نشاط اقتصادى. فلنتذكر تاريخنا مع الصندوق فى 1987، توصلنا إلى اتفاق معه ولم يمكن تطبيقه. وفى سنة 1991، توصلنا إلى اتفاق آخر هو أساس السياسات الاقتصادية المتبعة منذئذ، وهى سياسات لم تحقق نهضة اقتصادية وتحسنا فى حياة الناس، لا قبل 2011 ولا بعدها.
ذكر الإنفاق على التعليم والصحة يثير تساؤلا آخر: هل يوجد تفكير فى تعديل الدستور لتتخلص الدولة مما طالبها المواطنون به وهم يوكلونها فى إدارة شئونهم؟ أم هل أننا سنحصل على الدفعة الأولى من القرض ثم نعجز عن تحقيق الهدف المالى للبرنامج فلا نستمر فيه وتواصل مديونيتنا الخارجية ارتفاعها دون أن نجنى ثمارا لها؟
***
أما «مساعدة الأصدقاء» التى يفترض أن تأتى بعشرة مليارات أخرى، كما أعلمتنا الصحافة، و«الاستثمارات الأجنبية الكبرى»، التى ذكرها محافظ البنك المركزى، فهى لا تتطلب ثقة فى الاقتصاد فقط بل ثقة فى السياسة أيضا. هل يمكن بعشرات الألوف فى السجون، وبتضييق المجال العام، وبكبت الحريات، وبقمع الاحتجاجات، وبالمراوغات القانونية، وبإنفاق عشوائى على مشروعات، وبنشاط اقتصادى هائل الحجم لا تحصل الدولة من ورائه على أى إيرادات فى شكل ضرائب، وببرلمان صورى، وبخزعبلات الحديث الأمنى والتآمرى تسود النقاش العام، هل يمكن بكل ذلك أن نتوقع أى «استثمارات كبرى»؟
الحياة السياسية فى مصر مريضة. علاج هذا المرض شرط ضرورى لانتشال الاقتصاد المصرى من الهوة التى يسقط فيها.
بدون هذا العلاج سيذهب قرض الصندوق هباء.
أستاذ السياسات العامة بالجامعة الأمريكية بالقاهرة
اقتباس
إن تجربة دول عديدة ومنها مصر فى العقود الماضية، تبين أن خفض العجزين الداخلى والخارجى، وكذلك ضبط الأسعار وتخفيض معدلات التضخم، بل وتحقيق معدلات معقولة تماما من النمو الاقتصادى ليس كافيا لتحقيق الهدف الأسمى والنهائى للنشاط الاقتصادى.