اقتصاد (غير منظم) وسياسة (غير منظمة)
إبراهيم عوض
آخر تحديث:
الثلاثاء 13 سبتمبر 2011 - 11:50 ص
بتوقيت القاهرة
يعرف دارسو علم الاقتصاد، والمهتمون منهم بدراسات سوق العمل والمالية العامة بشكل خاص، مفهوم الاقتصاد «غير المنظم» فى البلدان النامية، وهم يبحثون فى المفهوم وفى تجلياته العملية، يختلفون ويتفقون على عيوب وسلبيات هذا الاقتصاد غير المنظم، من جانب، وعلى ميزاته وإيجابياته، من جانب آخر. المعنيون بالمالية العامة يشغلهم تسديد منشآت الاقتصاد غير المنظم وعماله للضرائب عن النشاط الاقتصادى، وهم يحتارون، مع المختصين فى الحسابات القومية، فى تقدير حجم هذا النشاط وقيمته. أما الباحثون فى شئون سوق العمل فهم يبرزون سهولة تأسيس المنشآت فى الاقتصاد غير المنظم، وسهولة اختفائها كذلك، ويتناولون بالدراسة خصائصها، وهى تتباين بين المنشآت المفرطة فى عدم تنظيمها، وتلك التى تتميز بدرجات متفاوتة من التنظيم. من بين هذه الخصائص تسجيل المنشآت من عدمه، والتداخل بين حسابات المنشآت وماليات أصحابها وجيوبهم، ورأس المال المستثمر بها، والتقنيات المستخدمة فيها. ويشدد الباحثون على العلاقة بين مستوى الاستثمار والتقنيات، من جانب، وإنتاجية المنشآت وما تدره من إيرادات وأجور على أصحابها وعمالها، من جانب آخر.
وبينما يستهجن بعض الباحثين سوء إنتاج منشآت الاقتصاد غير المنظم، ويذهب بعضهم إلى نعتها كلها بأنها منشآت «بير السلم»، ويستبشع أشكالها، خاصة المتجول منها، يبرز آخرون أنها تلبى احتياجات الفقراء، الذين لا يستطيعون شراء منتجات الاقتصاد المنظم، فضلا عن ان هذه المنشآت توفر فرص العمل والدخل لهؤلاء الفقراء. كذلك يختلف الباحثون فيما اذا كان الاقتصاد الوطنى فى البلدان النامية مزدوجا، يتوازى فيه الاقتصاد المنظم الحديث مع الاقتصاد غير المنظم، أم أنهما متداخلان، يخدم أحدهما، وهو الاقتصاد غير المنظم، الآخر، أى الاقتصاد الحديث. أما حيث لا يمكن أن يوجد اختلاف، فهو فى أن الاقتصاد غير المنظم لا يمكن تخطيطه، ولا يمكن التعويل عليه فى قيادة عملية التنمية فى شقها الاقتصادى. فى الشهور الأخيرة، أخذ الكثيرون يشكون من بشاعة منظر القاهرة الحديثة التى انتشرت فى شوارعها وميادينها منصات بيع السلع الرخيصة، وسرح فيها الباعة المتجولون. وإن كان هذا مؤسفا حقا، فإن الثورة ليست مسئولة عنه. هو الواقع الذى ينبغى مواجهته. واقع الاقتصاد الذى خلفه لنا النظام الساقط، اقتصاد تمثل الأنشطة غير المنظمة فيه 80 فى المائة من مجمل النشاط الاقتصادى الخاص غير الزراعى!
●●●
على أن البحث فى شئون الاقتصاد غير المنظم، على أهميته وضرورته، ليس المقصود بهذا المقال. استدعاء الاقتصاد غير المنظم وخصائصه وطريقة عمله فرضته مشاهدة المسرح السياسى الحالى، والطريقة التى يجرى التصدى بها لبناء نظام سياسى جديد فى مصر. من المؤسف أن انعدام التنظيم قد امتد الى السياسة، وأننا نعيش الآن حقبة السياسة «غير المنظمة»! والشواهد على عدم تنظيم السياسة عديدة. لا توجد خطة واضحة، ولا جدول زمنى واضح، للمرحلة الانتقالية الحالية ولعملية التحول الديمقراطى التى قامت من أجلها الثورة. الأمور تقريبية، ففتح باب الترشيحات لانتخابات مجلسى الشعب والشورى هو فى «أواخر سبتمبر»، والانتخابات نفسها فى «نوفمبر أو ديسمبر»! وليس معلوما علم اليقين إن كانت انتخابات مجلسى الشعب والشورى ستليهما انتخابات رئاسية أم سيصار أولا إلى اعتماد الدستور وإقراره. وشروط تأسيس الأحزاب عسيرة، بحيث أعلنت عن وجودها أحزاب هى غير موجودة فى عرف القانون. أحزاب قد تختفى بنفس السهولة التى «نشأت» بها، تماما مثلما هى حال منشآت الاقتصاد غير المنظم. بل بلغت سهولة الانضمام إلى السوق السياسية حدا جعل روابط مشجعى كرة القدم تنضم إلى هذه السوق، تعلن مواقف وتتصرف كأطراف فاعلة فى السياسة المصرية. اما وسائل العمل التى تنتهجها اغلب الأحزاب والحركات، فالاستثمار فيها شحيح من حيث المال، والتقنيات، والجهد. ولقد اقتصرت على التظاهر، والتظاهر الذى كان غاليا قبل الخامس والعشرين من يناير، أصبح ميسورا، منخفض التكلفة بعدها. ولأن التكلفة والاستثمار منخفضان، فإن إنتاجية التظاهر ومردوده ضعيفان.
الانعدام فى تنظيم القوى السياسية مؤسف ولكنه مفهوم، فلقد استحال هذا التنظيم قانونا ولاحقه النظام السياسى لعشرات السنين. غير أن المسئولية الأولى للقائمين على النظام السياسى الآن هى التنمية السياسية، التى تبدأ بتهيئة ظروف النمو للأطراف الفاعلة فى هذا النظام، من أحزاب وحركات سياسية، وتنتهى بالانتخابات المؤدية إلى ملء هياكل النظام السياسى، مرورا بوضع مشروع للدستور، ومناقشته، واعتماده من قبل جمعية تأسيسية منتخبة، وإقرار الشعب له.
وكما أنه لا يمكن للاقتصاد غير المنظم أن يخطط أو أن يقود تنمية اقتصادية، فإنه لا يمكن لسياسة غير منظمة أن تخطط أو أن تقود تنمية سياسية. إن خطرا داهما يهدد ليس الثورة وحدها، بل المجتمع المصرى نفسه، من جراء التشتت فى الأهداف والرؤى، والعشوائية التى تصبغ الجهود المبذولة والوسائل المستخدمة. لذلك، فالمطلوب بشكل ملح وعاجل من القائمين على النظام السياسى الإسراع بتنظيم السياسة المصرسة، وتحديثها.
●●●
تنظيم السياسة المصرية وتحديثها يمران عبر الإعلان عن برنامج للفترة الانتقالية فى الشهور القادمة، محدد العناصر، وواضح الآجال. ولا بد لهذا البرنامج، وهو الشىء عظيم الأهمية، أن يحدد طرائق عمل الجمعية التأسيسية والأغلبية المطلوبة لاعتماد مواد الدستور فى هذه الجمعية، ولإقرارها من قبل الشعب. هل الأغلبية المطلقة، أى خمسين فى المائة زائد واحد، كافية، أم أن عظم النتائج المترتبة على إعمال نصوص الدستور يستدعى اعتمادها وإقرارها من قبل أغلبية مرجحة، كأغلبية الثلثين مثلا؟ وتنظيم السياسة المصرية وتحديثها يتطلبان إعادة النظر فى شروط تأسيس الأحزاب السياسية، مع إنشاء برامج للتدريب على تنمية هذه الأحزاب، وعلى تطوير قدرات كوادرها. وهما يستدعيان أيضا إعادة النظر فى المرسوم بقانون الانتخابات، وفى مشروع ترسيم الدوائر الإنتخابية، حتى يسهم هذا المرسوم وهذا الترسيم فى تنمية الحياة السياسية، وكى تعبر الجمعية المنتخبة فى الانتخابات القادمة عن واقع الهيئة الناخبة، وعن أشواقها الديمقراطية.
وينبغى للبرنامج ان يدخل وضوحا كاملا على آليات التحول الديمقراطى، وأن يبدد كل لبس قد ينشأ فى المستقبل. على سبيل المثال، الانتخابات القادمة هى لانتخاب مجلس الشعب، أى السلطة التشريعية، ولكن الإعلان الدستورى الصادر فى 30 مارس 2011 ينص فى الفقرة الأولى من مادته السادسة والخمسين على أن المجلس الأعلى للقوات المسلحة، فى توليه لإدارة شئون البلاد، يباشر سلطة التشريع. فأى من الهيئتين سيمارس إذن سلطة التشريع؟ صحيح أن المادة الثالثة والثلاثين من الإعلان تنص على أن يتولى مجلس الشعب فور انتخابه سلطة التشريع، ولكنها لم تنص على أنه يمارسها وحده. وبما أن المادة السادسة والخمسين لا تحدد أجلا لممارسة المجلس الأعلى لسلطاته، فإنه يمكن أن يستمر فى ممارسة هذه السلطات، بما فى ذلك السلطة التشريعية، طالما كان متوليا لإدارة شئون البلاد. قد ينشأ عندئذ تنازع بشأن سلطة التشريع، أو قد تشترك الهيئتان فى التشريع، وهو ما يفرغ نتيجة الانتخابات من مضمونها الديمقراطى.
●●●
لقد نالت الثورة المصرية إعجاب العالم وألهمته، وهو نفس العالم التى مرت بلدان عديدة فيه فى العقود الأربعة الماضية بفترات للتحول الديمقراطى، صادف النجاح أغلبيتها العظمى. نحن لم نستلهم هذه التجارب ولم نطوعها لظروفنا ولاحتياجاتنا. ومع ذلك، فإنه ما زال بإمكاننا استدراك ما فات بتحديث سياستنا «غير المنظمة»، وتنظيمها. عندئذ سنستمر فى إلهام العالم، وسيعود هذا علينا بنفع كثير فى مقبل الأيام.