غاز شرق المتوسط.. وما يحمله من تحديات
معتمر أمين
آخر تحديث:
الأحد 13 سبتمبر 2020 - 7:15 م
بتوقيت القاهرة
منذ اكتشاف الغاز الطبيعى فى شرقى المتوسط والتفاعلات فى المنطقة لا تهدأ. ولعل أبرز السمات الرئيسية فى المشهد تدور حول سؤالين. فى أى مياه تقع حقول الطاقة، ثم كيف ينتقل الغاز الطبيعى من الحقول إلى الأسواق. وحول هذه النقاط تدور التفاعلات فى المنطقة وتتسم بالتوتر الشديد وأحيانا بالإثارة. ولعل التوتر الحالى بين تركيا واليونان الناجم عن رفض تركيا لاتفاقية ترسيم الحدود البحرية بين مصر واليونان هى آخر محطة فى مسار التوتر المتصاعد، الذى حرك مناورات بحرية لكل من تركيا من جانب واليونان وبعض الدول الأوروبية من جانب آخر منذ أواخر أغسطس وبداية سبتمبر. وقد ينجم عن هذه التدريبات البحرية احتكاك لا لزوم له قد يشعل الموقف، لاسيما وأن فرنسا تلقى بثقلها فى جانب اليونان، بينما ألمانيا والناتو يتوسطان لدى الطرفين بدون نجاح يذكر حتى الآن.
***
ومع كل الاعتبار لهذه التطورات، لا يجب أن نغفل فى مصر ثلاثة أمور رئيسية فى أى موضوع يتعلق بثروة الغاز الطبيعى شرقى المتوسط. أول اعتبار العائد من الغاز الطبيعى المكتشف. ويمكن شرح هذا المعيار بسؤال بسيط، هل سيكون دور العائد من الغاز الطبيعى إنعاش الخزينة المصرية، سواء من حيث توفير الاستيراد أو حتى من عوائد التصدير (ويشمل ذلك التصدير للغير)، أم سيكون العائد من قطاع الغاز هو تحويله إلى رصيد من الطاقات تعظم الإمكانيات المصرية؟ التعامل مع هذا المورد على أنه رقم فى الصادرات والواردات يسلب من هذا المورد الحديث ميزته بالنسبة للاقتصاد المصرى. فمثل هذه الموارد الناضبة يجب أن تثمر عن تحول نوعى فى ملف بناء القدرات المصرية من حيث ربط عوائدها بتطوير قطاع معين مثل التعليم العالى والبحث العلمى على سبيل المثال، وكأنه وقف بغرض تحويل التعليم العالى من حال إلى حال. أما التركيز على تحويل السيارات القديمة لاستعمال الغاز الطبيعى بدلا من البنزين لتوفير الاستيراد فهو أمر قصير الأمد يخدم الموازنة إلى حين. علما بأن العالم يتجه لتشغيل السيارات اعتمادا على الطاقة الكهربائية.
الاعتبار الثانى هو الجيوسياسى شرقى المتوسط، والمعيار هو التعاون الإقليمى. ولقد استطاعت مصر عبر تدشين منتدى الدول المصدرة للغاز الطبيعى شرقى المتوسط مطلع 2019 أن تجمع ٦ دول لهذا التجمع الهادف لتطوير التعاون وتنسيق المصالح والمواقف، والحيلولة دون تحول الملف إلى طابع صراعى بين الدول المتشاطئة. ولما كان هذا الهدف عزيزا بسبب السلوك التركى، وجب التنبيه لأمرين. إذا تحول المتوسط إلى ساحة مواجهة فإن الأمور لن تترك للحسم على المستوى الإقليمى، بل ستجد دول كبرى معنية تلعب دورا فى تنظيم الأمور على حساب دول الإقليم. فلا روسيا ولا الولايات المتحدة، ولا الناتو والاتحاد الأوروبى سيتركون حالة التوتر المتصاعد تستمر لتؤثر على أهم ممر ملاحى تجارى فى العالم. لذلك وإن كانت البداية من داخل الإقليم فإن النهاية لن تكتب بيد دوله. الأمر الثانى فى حال اندلاع مواجهة بين مصر وتركيا لا قدر الله، فإن هذه المواجهة بين أكبر دولتين سنيين فى المنطقة سيخصم من رصيد الدولتين. وأيا كانت حسابات المكسب والخسارة على المدى القصير فإن التداعيات طويلة الأمد ستلقى بظلالها على الدولتين. وسواء كانت المواجهة فى البحر أو فى ليبيا فإن النتيجة واحدة. فالمستفيد الأول لن يكون أيا منهما. مع الملاحظة، أن مشروع خط أنابيب الغاز الطبيعى شرق المتوسط أوروبا الذى ينطلق من حقول إسرائيل شرقى المتوسط إلى قبرص فاليونان فإيطاليا، هو أهم مشروع لنقل الطاقة لأسواق أوروبا من المنطقة، وهو يصطدم لا محالة باتفاقية ترسيم الحدود البحرية بين أنقرة وحكومة السراج. كما أن الخط ذاته منافس لخطوط إمداد الغاز الطبيعى الممتدة عبر تركيا إلى أوروبا.
الاعتبار الثالث والأخير، يخص الأسواق. فالجميع فى سباق إلى الأسواق الأوروبية، وهذه الأخيرة لها أجندة خاصة بها، وضعت لها محطات فى ٢٠٢٠، و٢٠٣٠، و٢٠٥٠. وفى كل محطة تضع قواعد صارمة تنظم أحوال الطاقة وتربطها بعلاج التغيير المناخى. ومن ثم تضع جدولا زمنيا للتوقف عن استخدام البترول، وجدولا آخر لإحلال الطاقة البديلة (النظيفة). علما بأن فائض الطاقة البديلة (الشمسية فى هذا المقام) تفوق التوقعات. والغاز الطبيعى ليس بعيدا عن هذه المنظومة. فإلى الآن تستثنى قوانين الاتحاد الأوروبى الغاز الطبيعى من الموارد التى يجب خفضها بحلول ٢٠٣٠. لكن الأمر قد يتغير تماما فى أجندة ٢٠٥٠. المعيار فى هذا المقام مرتبط بالاستهلاك. فمعظم واردات الغاز إلى أوروبا تذهب لتدفئة البيوت، والقليل منها يذهب إلى السيارات. وحال تحول السيارات إلى الطاقة الكهربية، وتحول المنازل لاستعمال الطاقة البديلة، فإن واردات الغاز الطبيعى إلى أوروبا ستنخفض بطريقة غير مسبوقة. مما يعنى أن المسألة مجرد وقت أمام صادرات الغاز الطبيعى. وقد يكون من الأجدى التحول إلى تصدير الكهرباء عبر المتوسط. فهى أقل كلفة من حيث خطوط الإمداد، ومن حيث التنافس الاقتصادى وأيضا السياسى. ومصر لديها بالفعل عدد من المشروعات فى هذا الاتجاه بالتعاون مع شركة سيمنز الألمانية. لاحظ أن تصدير الكهرباء يحمل ميزة أخرى إلى الاقتصاد المصرى، حيث نستطيع الوصول به إلى مناطق شاسعة فى أفريقيا تنافس إنتاج الكهرباء من مشروعات محتملة مثل مشروع سد النهضة.
***
باختصار، الاستفادة من مورد ناضب مكتشف حديثا مثل الغاز الطبيعى لم تكن خزانة الدولة تستفاد منه، لا يجب التعامل معه بطريقة تقليدية كرقم إضافى للصادر والوارد. بل من المستحسن ربطه بهدف سامٍ مثل منظومة التعليم العالى وبناء القدرات لخريجى الجامعات والمعاهد المصرية. وهو ما يفتح آفاقا جديدة أمام مصر بسواعد المميزين من أبناء الوطن. ثم على صانع القرار أن يختار بين تصدير الغاز الطبيعى وتصدير الكهرباء بعد عمل حساب المكسب لكل منهما. فتصدير الكهرباء أقل كلفة، وأقل تنافسا، وأكثر انتشارا، ويخدم المصالح المصرية فى مناطق بالغة الحيوية ليس فقط فى أوروبا ولكن الأهم فى أفريقيا.