ماذا بعد استيقاظ العالم على إيقاع أحداث غزة؟
محمد رءوف حامد
آخر تحديث:
الجمعة 13 سبتمبر 2024 - 8:20 م
بتوقيت القاهرة
بعد أن كشفت أحداث غزة الضخامة المتناهية لعورات النظام الدولى، صار التساؤل الأكثر انتشارا فى العالم: «وماذا بعد؟ أى: ماذا بعد الانكشاف الكبير للاصدقية هذا النظام؟»
فى هذا الخصوص يسعى الطرح الحالى للنظر فى المخرجات الفكرية لأحداث غزة، وقدر علاقتها بما يحتاجه العالم من تحولات.
أولا ــ المخرجات الفكرية لأحداث غزة:
صحيح أن الكيان الإسرائيلى قد دمر غزة، ولا يزال يواصل الإبادة الجماعية لأهلها، لكن من الصحيح أيضا أنه، وبرغم جميع أنواع الدعم من حلفائه (بالسلاح والمال والمحاربين واللوجستيات والسواتر الإعلامية .. إلخ)، لم يستطع أن يقهر المقاومة الفلسطينية (حماس)، ولا أن يقهر إرادة الشعب الفلسطينى، ولا أن يوقف سخط شعوب العالم عليه.
هذه الوضعية، التى شرنقت فيها إسرائيل نفسها، إضافة إلى تحديها للقانون الدولى، أدت بالعالم إلى إدراكات عامة جديدة، يأتى من بينها:
• انكشاف عميق لتآمريات والتفافات «فكر القوة» (على المستوى الدولى) ضد الحقوق الطبيعية للبشر.
• إدراك أضرار التأخر (أو التلكؤ) فى التصدى للممارسات الإرهابية ضد الشعوب (ومن أمثلتها ما جرى بشأن البلقان وأفغانستان والعراق، وما جرى (ويجرى) فى فلسطين وفى السودان وليبيا).
• تزايد حساسية الشعوب لاتباعية حكامها فى دعم (أو التراخى عن) تطرفات النظام الدولى.
• عطش عالمى لإخضاع النظام الدولى لبوصلة الأخلاقيات.
ثانيًا ــ الحاجة القصوى لإصلاح الشأن العام الدولى:
معنى مثل هذه الإدراكات أن العقل العام العالمى قد صعد، من خلال أحداث غزة، إلى العتبة الأكثر إلحاحا لتصحيح النظام الدولى. لقد وصل العالم إلى هذه العتبة بتكلفة غالية دفعتها الشعوب على مدى عقود، وجاءت أحداث غزة لتتمم فاتورتها.
وإذا كانت قد جرت الإشارة سابقا (غزة .. ما بين اليوم التالى والمتبقيات ــ الشروق ــ 15 أغسطس 2024) إلى أن «المتبقيات» Residuals الناجمة عن أحداث غزة ستسكن فى الزمان القادم، بتواصل تأثيراتها وانعكاساتها، بشكل يكاد لا تكون له حدود، فللاصطفاف الذى حدث فى الرأى العام الدولى لدعم تحرير فلسطين معنى رئيسيا لا يقل أهمية عن المتبقيات. إنه تولد الحاجة القصوى لإصلاح الشأن العام العالمى.
وهكذا، صعدت أحداث غزة بالرأى العام العالمى إلى مستوى الرفض التام للممارسات التسلطية/التطرفية/الإرهابية ضد شعوب العالم وبلدانه. ذلك يعنى أن العالم صار بحاجة ماسة إلى الخروج من الأزمة الحادة التى يعيشها بسبب عورات النظام الدولى. إنه يحتاج للـ«تحول» Transformation إلى نظام أكثر أخلاقية ونفعا لشعوب العالم وبلدانه.
ثالثا ــ نحو تحول معرفى عالمى:
من جانب آخر، من المستحيل إحداث تحول إلى نظام دولى أكثر أخلاقية، بالاعتماد على نفس الأطر المعرفية القائمة، والتى أدت إلى تخلُفية النظام الحالى.
هنا، تأتى الحاجة إلى ما يمكن أن يطلق عليه «المعرفة الإنسانية التغييرية الجديدة»، والتى كانت قد جرت الإشارة إليها فى تناول سابق يتعلق بالسلوكيات التطرفية (و/أو الإرهابية) الدولية المتسلطة على العالم، والمسببة لما يسود فيه من انحرافات (مستقبل جديد للثورات: ثورة المفكرين ــ الحوار المتمدن ــ العدد 3991- 2 فبراير 2013، وهى دراسة ضُمنت لاحقا فى كراس بنفس العنوان ــ سلسلة الكراسات المستقبلية ــ المكتبة الأكاديمية ــ القاهرة (2019)).
وهكذا، على إيقاعات أحداث غزة، تتولد الآن الحاجة العالمية إلى منصة المعرفة الإنسانية التغييرية الجديدة أكثر من أى وقت مضى.
عمليا، يمكن الإشارة إلى هذه المعرفة باعتبارها المدخل (أو الإطار) الأساس للفعل التغييرى العالمى المنتظر، فيما يتعلق بمواجهة مخاطر هيمنة القطب الأوحد.
إنه فعل يقوم على المعرفة (أى الفكر وليس بلطجة القوة). فعل يحمل العزم على السير فى الطريق (أو الطرق) الأنسب، لتخليص العالم من شرور قوى الأنانية والهيمنة والتطرف، وأيضا للتخلص من الجوانب السلبية للعولمة، فى اتجاه التوصل إلى إيجابيات العالمية (الوطنية فى مواجهة العولمة ــ دار المعارف ــ سلسلة اقرأ ــ 1999).
من منصة هذا الفعل المعرفى التغييرى تأتى إمكانية التوصل إلى تحول عالمى فى الأطر المرجعية الفكرية للمعايير والأحكام.
وعن أهم خصائص ومهام المعرفة الإنسانية التغييرية الجديدة، يمكن الإشارة إلى التالى:
• إنضاج الفكر بخصوص بناء منهجية علمية تطبيقية لمحاصرة قوى الأنانية والتطرف.
• نحت نوعية إيجابية من العلاقات التواصلية بين جماهير المواطن العادى وبعضها، وبينها من جانب، وأدوات الإدارة والحكم من جانب آخر.
• الانطلاق من (ودعم) القيم الإنسانية العالمية العليا، وجعل مسارات وتضاريس الشأن العام العالمى أكثر أخلاقية.
• استهداف حماية العالم من الحركيات التى يمكن أن تقود إلى الاحترابات.
• الاستفادة بما جدّ عالميا من أفكار، وخبرات، وتقانيات، يمكن أن تحمى من مآسٍ كبرى، على غرار الحروب العالمية وممارسات الإبادة الجماعية.
وإجمالا، تكمن الوظيفة المنهجية للمعرفة الإنسانية التغييرية الجديدة فى أن تكون بمثابة الجسر الموصل إلى:
أ) أهداف عالمية جديدة.
ب) أدوات وآليات لتحقيق هذه الأهداف.
وأما عن المعوقات التى يمكن أن تُحَجِم من نمو هذه المعرفة، وتعوق حركياتها، فهى عديدة، وتمثل تحديات يحتاج التعامل معها إلى منظومة «نضالات معرفية».
رابعًا ــ معوقات التحول المعرفى:
باعتبار أن التحول المعرفى يعنى ــ ضمنيا ــ التوصل إلى مستجدات بشأن القيم والمعايير والأهداف، والممارسات، والتى ربما تكون معاكسة (أو مناقضة) لسلبيات ما سبق أن كان سائدا، يكون من الطبيعى أن تبزغ معوقات لهذا التحول، خاصة من أصحاب الارتباطات النفعية مع الأوضاع الأسبق.
وعليه، تكمن القوى المضادة لهذا التحول فى الكيانات (أو التوجهات) المهيمنة على الأوضاع السائدة فى النظام الدولى الحالى، وتلك الخادمة لها.
هذا، ويمكن رصد هذه العقبات والمعوقات كالتالى:
1 ــ عقبة النيوليبرالية (أو الرأسمالية الشرسة)، الصانع الرئيسى لانحرافات الأوضاع الدولية، والمستفيد الأساسى منها، بما تشكله من مصالح مالية، على غرار منظومة صناعة الأسلحة، وسياسات التحكم فى توزيع القيمة المضافة المتحققة بالتطورات التكنولوجية لصالح كبار أصحاب رءوس الأموال، على حساب متطلبات العدالة والمساواة بالنسبة لحياة البشر. هكذا ممارسات تنشأ وتتواصل من خلال تحكم النيوليبرالية، بسلوكيات تآمرية، فى أحوال التنمية والديمقراطية، من حيث دعم، أو إضعاف، مسارات سياسية معينة (خاصة فى بلدان الجنوب).
2 ــ عقبة الصهيونية العالمية، والتى تتشارك دوما مع القوى الدولية الأكبر (مثلا: الإمبراطورية البريطانية فى زمن سابق والقطبية الأمريكية فى عصر العولمة) فى تشييد توجهات الهيمنة على العالم.
إضافة إلى ذلك تتغلغل الصهيونية بحِرَفية إلى دوائر اتخاذ القرار بهدف التأثير عليها (اللوبى الصهيونى فى الولايات المتحدة نموذجا).
هذا، وتستهدف الصهيونية العالمية، إخضاع المنطقة العربية لسياسات التفتيت والتطبيع والإتباعية، ماليا وتجاريا وفكريا، بقصد هدم مستقبليات شعوبها.
3 ــ عقبة السلطات المحلية، والتى يعتبر التحكم فى توجهاتها (وأعمالها) فى بلدان الجنوب هدفا رئيسيا مشتركا لقوى النيوليبرالية والصهيونية العالمية، وذلك لمنافع السيطرة السياسية والتجارية، فضلا عن جنى الثروات المحلية، وإعاقة التنمية البشرية.
من هنا تحرص هذه القوى على فرض (وإحكام) اتباعية حكام بلدان الجنوب لها، مما يفاقم من تصعيد الممارسات المؤامراتية المعرقلة لأحوال التنمية والديمقراطية فى هذه البلدان.
4 ــ عقبة النخب: فى بلدان الشمال، تكاد تنحصر مهام النخبة (الثقافية والفكرية) تجاه أوضاع العالم داخل التعامل الذهنى/ الفردى مع الأمور، سواء فى صالح أو ضد اتجاهات فكرية و/أو سياسية معينة. وعادة لا ينعكس هذا التعامل بفائدة عملية معقولة على حركيات الحياة.
وأما فى بلدان الجنوب، فالنخبة فيها تتمايز عادة إلى نوعين. يتمثل أولهما فى نخبة تابعة لـ (أو مؤتلفة مع) النظام الحاكم، حيث تنال عناصر هذه النخبة الحظوة فى المجالات السياسية والاقتصادية والمالية. وأما نخبة النوع الثانى فتلك الممارسة للمعارضة السياسية، وفى عديد من الأحيان تكون إمكاناتها وسلوكياتها قليلة الحيلة، سواء بسبب تفتتها وضعفها و/أو نتيجة ضغوط السلطات المحلية عليها.
وهكذا، ينجم عن المعوقات الأربعة، وما بينها من تشابكات، تسيير النظام الدولى برمته، وشعوب العالم ــ عموما ــ فى اتجاه معاكس للإنسانيات ولمصالح الشعوب.
خامسا ــ مهام الاستيقاظ العالمى الجارى:
فى مواجهة التنامى المطرد للمعوقات السابق ذكرها، والتى تجسدت بوضوح، على الأقل منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، تكون الصحوة الاستيقاظية التى حدثت لمعظم شعوب العالم (وللبعض من قياداته) نتيجة لأحداث غزة، فرصة استثنائية.
مثل هذه الوضعية تستحق ليس مجرد الرصد الجيد، وإنما تعظيم الاستفادة إلى أقصى حد ممكن.
بمعنى آخر، من المطلوب السعى لحوكمة العالم برؤى وآليات تنبع من منصة المعرفة الإنسانية التغييرية، الأكثر نضجا واكتمالا، وليس من منصة المصالح النفعية الخاصة بالنيوليبرالية، أو بتوجهات عنصرية كحالة الصهيونية وقوى التطرف.
هنا يتبلور السؤال الاستراتيجى: كيف يمكن للاستيقاظ العالمى الناجم عن أحداث غزة أن يقود إلى حركيات يمكن لها أن تصل إلى «حوكمة دولية» أكثر عدلا ونفعا لعموم الشعوب؟