اختزان حب الوطن الذى كان
عمرو حمزاوي
آخر تحديث:
الثلاثاء 13 أكتوبر 2015 - 7:45 ص
بتوقيت القاهرة
غريب أمر هؤلاء الناس أرغموا على مغادرة مصر فى خمسينيات وستينيات القرن العشرين، غادروها وهم لا يعرفون وطنا آخر، وعددهم الأكبر لم يكن يعرف وجهته النهائية، عثرت غالبيتهم على ملاذات آمنة للإقامة والاستقرار والعمل فى بعض البلدان الأوروبية وفى الولايات المتحدة الأمريكية، لم تحمل لهم سنوات ما بعد «التهجير» سوى ما تخوفوا منه عندما غادرت سفنهم الشواطئ المصرية، كانت الرحلة فى اتجاه واحد بلا بطاقات عودة. إنهم يهود مصر الذين لم يطرق منهم باب «إسرائيل» سوى مجموعة متناهية الصغر، والذين أكتب اليوم عنهم فى شأن إنسانى لا علاقة له بالسياسة.
فالغريب فى أمرهم هو اختزان أجيالهم المتعاقبة لمصريتهم، معرفة كارتباط وجدانى وهوية ثقافية واهتمام دائم بحال الوطن الذى كان. بل إن من بقى على قيد الحياة ممن غادروا مصر فى عشرينياتهم أو ثلاثينياتهم أو أربعينياتهم العمرية وقدموا كأمهات وآباء بأولادهم إلى المجتمعات الغربية مازال يستخدم اللغة العربية على نحو مكثف، وبعضهم نجح فى تمرير استخدامها إلى الأبناء والأحفاد ــ والمفارقة لدى البعض هى أن المتقدمين فى العمر يتحدثون عامية مصرية توقفت مفرداتها وصياغاتها عند خمسينيات وستينيات القرن العشرين، بينما يستخدم العربية الفصحى متوسطو العمر والشباب الذين حفزهم الارتباط الوجدانى بمصر على صقل مهارات اللغة أو اكتسابها وتعلموها «أكاديميا» كما يتعلمها الغربيون المعنيون بشأن مصر أو عموم بلاد العرب.
أما الارتباط الوجدانى بمصر فمصدره الأساسى هو الذكريات؛ ذكريات من غادروا عن أماكن السكن والدراسة والعمل، عن «الجيران» وتفاصيل الحياة الاجتماعية، عن النشاط الفكرى والفنى والسياسى الذى كان بعضهم يسهم به، عن التضامن الإنسانى الذى لامسوه من قبل مصريين من المسلمين والأقباط حين عوقبوا جماعيا بالتهجير وورطوا دون رغبة منهم فى قضايا الصراع العربى ــ الإسرائيلى، وأيضا عن المشاعر السلبية والانتقامية وأمراض الجشع والاستغلال وإهدار الحقوق التى واجهوها لدى مصريين آخرين.
وحول الذكريات هذه تصنع بمهارة إنسانية بديعة حالة عامة من «اختزان حب الوطن الذى كان»، وتنتقل عبر الأجيال متجاوزة للاختلاف الشديد بين من غادروا مصر شبابا أو وهم من متوسطى العمر وبين من غادروها أطفالا واندمجوا فى مجتمعاتهم الجديدة، وبينهم المجموعتان وبين من ولدوا بعيدا عن مصر ولم يكتسبوا بها خبرات حياتية.
ثم يأتى كمصدر إضافى للارتباط الوجدانى التعلق المتواصل بالثقافة المصرية وجوانب إبداعها المختلفة من إنتاج موسيقى وغنائى وفن سينمائى و«تراث شعبى» تتداول حكمه وأمثاله وحكاياته عبر الأجيال ــ وإن مترجمة من العامية المصرية إلى اللغات غير العربية التى أصبحت اللغات الأم، وأيضا الاهتمام المستمر بأحوال مصر ومتابعة أوضاعها الراهنة ــ وإن ارتبط ذلك بمن يسمح لهم التقاعد والخروج من علاقات العمل بتخصيص الكثير من الوقت لمتابعة «الأخبار» والإلمام بالتفاصيل التى ترهقهم كما ترهقنا.
لا حديث اليوم فى السياسة، ولا شأن لى بالمواقف المتنوعة ليهود مصر المقيمين فى المجتمعات الغربية من حق الشعب الفلسطينى فى تقرير المصير والذى يقره البعض عدلا وينكره آخرون ظلما، ولا شأن لى بمن يذهب إلى إسرائيل على نحو دورى ومن يبتعد عن ذلك رفضا للاحتلال وللإجرام الاستيطانى ولانتهاك حقوق وحريات الفلسطينيين. لا شأن لى اليوم بكل ذلك، فقط أسجل هذه الحالة الفريدة من ثقافة التذكر واختزان حب الوطن الذى كان، وبعض مفرداتها التى ينبغى أن تدفعنا نحن فى مصر إلى نقاش صريح وصادق بشأن حقائق التهجير والظلم والعقاب الجماعى التى فرضت على يهود مصر فى خمسينيات وستينيات القرن العشرين والتى تستدعى ثقافة تذكر من نوع آخر.