أسرارى الصغيرة
تمارا الرفاعي
آخر تحديث:
الأربعاء 13 أكتوبر 2021 - 9:35 م
بتوقيت القاهرة
أخبئ مفتاح البيت فى طاقة صغيرة فى حائط الطابق الذى أسكن فيه وقد لا يراها من يزورنى، أضعه هناك تحسبا ليوم أنسى فيه المفتاح ويوم أنساه أهرع وأتصل بزوجى ليعود بسرعة ويفتح لى.
أكتب كلمة السر لجهاز الحاسوب على ورقة صفراء ألصقها داخل درج فى خزانة الثياب ثم أنسى أنها هناك وأنسى كلمة السر.
أضع كوبين من الخزف الملون جانبا لاستعمال والدتى حين تزورنى وأطلب من أولادى أن يبتعدوا عنهما تماما ثم تزورنى أمى ولا أتذكر الكوبين.
أكتب خواطر مبعثرة على قصاصات أتركها فى أماكن كثيرة على أمل أن تساعد أولادى يوما ما أن يفهموا أمهم ويعذروها أو يتسامحوا مع بعض المواقف التى ربما لم يفهموها حين حدثت.
أنشف وردة داخل كتاب لتذكرنى بمناسبة سعيدة ثم يبقى الكتاب على الرف شهورا وحين أفتح الصفحة لا أتذكر المناسبة لكنى أتوقع أنها كانت سعيدة.
•••
دفاتر العمل تحتوى على معلومات تتعلق بالأوضاع السياسية واقتراحات عملية بإمكان المؤسسات المختلفة التى أعمل فيها أن تساهم فى حلها. من الطرف الآخر من الدفاتر سوف تجدون وصفات لطبخات شامية وستجدون أيضا لوائح لأصدقاء دعوتهم على العشاء وتواريخ الدعوات مع لائحة ما قدمته فى كل مناسبة.
فى أقصى يمين الدرج الأول هناك رزمة كبيرة من البطاقات التجارية التى تجمع نقاط التسوق مقابل تخفيضات يمكن الحصول عليها من محلات محددة. الحقيقة أننى أجمع النقاط وأنسى البطاقة يوم أتذكر الخصم.
•••
تزعجنى الصور الرقمية رغم استمتاعى بالتقاطها وتظاهرى أننى مصورة، وأنا بعيدة كل البعد عن ملكة التصوير. تزعجنى الصور الرقمية إذ أنها ستختفى مع اختفاء هاتفى فأنا لا أخزنها على جهاز الحاسوب وحتى لو خزنتها فستختفى هى الأخرى حين يختفى الحاسوب ولن يبقى لأطفالى صور مصفرة يدققون فيها فى وجهى ويقولون «شوف كيف كانت ماما؟؟».
هذا الكرسى سيكون مكان جلوسى الأخير: أنا أعرف أننى سأضعه قرب الشباك وأجلس عليه لأراقب الشارع ــ أو الحارة كما سأسميها يومها. سوف أجلس ساعات بأكملها أراقب الناس ــ ولن أموت هما على فكرة بل سأستمتع كثيرا من خلف الزجاج فى يوم خريفى تخرج فيه النساء معاطفهن الخفيفة احتماء من أول مطر فى الموسم. سوف أعرف أن اللقاءات الغرامية تبدأ عند ناصية الشارع وتنتهى أمام كشك بيع السجائر، وماذا لو توقف الناس فعلا عن التدخين، ماذا سنسمى الكشك؟ كشك بيع الحلويات؟
•••
خاتمى المفضل أخبئه لابنتى، كما أعطتنى إياه أمى التى أخذته بدورها من والدتها، أى جدتى. هناك بعض المسلمات كأن ينتقل خاتم كهذا ضمن الخط النسائى فى العائلة. ماذا لو لم أنجب ابنتى؟ من كان سيأخذ الخاتم؟
فى خزانة المطبخ علبة شوكولاتة من دمشق، الحلويات مغلفة بورق الحرير كأنها جواهر. العلبة فى خزانة لا يفتحها أهل بيتى عموما وقد وضعتها هنا بعيدا عن عيون وشهية عائلتى، هى جزء من دمشق خاص بى. يكتشف زوجى العلبة خلال سفرى فيفرح مع أطفالى لوجود كنز كهذا بين أيديهم فى غياب الحارس فأنهرهم عن بعد وأهدد بأننى لن أعود إن أخذوا علبتى. لا تفاوض ممكن فى شوكولاتة دمشق.
•••
فى داخلى هاجس أن أختفى دون أثر، كأن تبتلعنى الأرض أو أن أقع وأكسر رقبتى على درج مترو الأنفاق فى مدينة غريبة أثناء سفرى فى مهمة عمل، يومها أكون قد خرجت من البيت على عجل دون أوراقى الشخصية فلا يعرف من يجدنى من أنا ليبلغ عائلتى.
فى داخلى رعب من أن أفقد عقلى مع التقدم بالعمر، فتسقط منى التفاصيل وأنا مدركة أن بعضا منى يتساقط دون أن أعرف ما فقدت، أظن أن الرعب يتعلق بفترة إدراكى أننى بدأت أفقد عقلى يعنى فترة ما قبل أن أفقده تماما. لطالما طلبت صديقتى من الرب والكون أن يبقيا لها عقلها حتى لو فقدت كل ما لديها. «دماغى يا ربى، كله إلا دماغى» تقول عنايات، صديقتى.
•••
الرحيل: هذا الفراغ الذى يتركه من يرحل. كيف يختفى أحدهم كمن يقص جزءا من الصورة فيخفى وجها من المجموعة؟ ثم ما الذى يملأ الفراغ فى حالة الغياب؟ ضباب يغطى مكان من ذهب من هنا، وجه يظهر ويبهت وصوت بنبرة أعرفها يخترق ساعات الليل.
الوطن: لا أستطيع تحديد مكانه فقد أصبح الوطن خليطا من بيت العائلة وعشاء مع الأصدقاء. أما الحارة ورائحة المكان وصوت البائع المتجول فأنا ألصقه حيث أكون تماما كمن يستعمل تطبيقا على الحاسوب ليضيف ألوانا وأصواتا على مشهد. بدل أن أنتقل من الصورة الكبرى للوطن إلى التركيز على تفصيل البيت أنا الآن أنطلق من البيت ثم أكبر الرؤية، أو على رأى صناع الأفلام «زوم أوت» وليس «زوم إن».
وأنتم؟ ما هى أسراركم الصغيرة؟
كاتبة سورية