رجل أكتوبر المنسى!

عبد الله السناوي
عبد الله السناوي

آخر تحديث: الأحد 13 أكتوبر 2024 - 6:20 م بتوقيت القاهرة

 

على مدى نصف قرن كاد ذكره أن ينسى من فرط تجاهل أدواره فى حرب أكتوبر (1973)، كأنه لم يكن القائد العام للجيش الذى انتصر.

لعقود طويلة تلخصت ملحمة أكتوبر فى رجلين، الرئيس الأسبق «أنور السادات - بطل الحرب والسلام» وخليفته «حسنى مبارك - صاحب الضربة الجوية الأولى».

كان ذلك إجحافا بما جرى فعلا فى ميادين القتال وتجاوزا بحق القادة العسكريين الآخرين والجندى المصرى العادى نفسه، الذى اجترح معجزة العبور فوق الجسور بعد ست سنوات كاملة فى الخنادق الأمامية.

لأسباب مختلفة ومتداخلة توارى اسم القائد العام المشير «أحمد إسماعيل على» إلى الظلال. رحل فى ديسمبر (1974)، وهو فى السابعة والخمسين من عمره، بعد عام واحد من النصر العسكرى متأثرا بمرض عضال أمهله بعض الوقت ليحارب ويقود قبل أن ينال منه. ودعته مصر بما يليق قبل أن تطوى صفحته تماما، كأنه لم يكن على رأس الجيش المصرى فى لحظة تقرير مصائر. لم يخلف وراءه شهادة مكتوبة متماسكة على ما جرى، مثل أقرانه من العسكريين الكبار، الذين خاضوا غمار الحرب تحت قيادته. ولا أفرج عن الوثائق المحجوبة لحربى «يونيو» (1967) و«أكتوبر» (1973)، رغم أنه لم يعد هناك بمضى الزمن سر مخبوء.

أقيل لمرتين، أولاهما، بعد حرب يونيو، لكنه عاد ليتولى تاليا رئاسة أركان الحرب بعد استشهاد الفريق «عبدالمنعم رياض». وثانيهما، بعد حادث الزعفرانة، الذى مثل صدمة لجيش يحاول بأقصى ما يستطيعه أن يتعافى قبل أن يعود رئيسا للمخابرات العامة بعد أحداث مايو (1971) ثم قائدا عاما للجيش قبل حرب أكتوبر مباشرة.

لماذا أقيل؟ وكيف عاد؟ التفاصيل ضرورية، وهذه مسألة وثائق تحتاجها مصر لتحكم نظرتها إلى تاريخها الحديث. تساعد الوثائق الأجيال الجديدة على بناء صورة موضوعية لما جرى فعلا من تحولات وانقلابات فى الحياة المصرية وقد تنصف بعض أدوار الرجال.

 بعد رحيله طلبت السيدة قرينته «سماح الشلقانى» من الأستاذ «محمد حسنين هيكل» أن ينظر فى أوراق متناثرة تركها بمكتب منزله لعلها تمثل شهادة للتاريخ.

أطل عليها وغادر دون أن يأخذ معه شيئا. كان تقدير «هيكل» أن تلك الأوراق لا توفر شهادة لها قيمة فى تفسير الحوادث التى كان المشير الراحل طرفا فيها، أو شاهدا عليها.

من مفارقات التاريخ والحياة رحيله قبل اختيار الفريق «حسنى مبارك»، قائد «سلاح الطيران»، نائبا لرئيس الجمهورية منتصف سبعينيات القرن الماضى متخطيا قادة عسكريين آخرين لعبوا أدوارا جوهرية فى حرب أكتوبر.

كان المشير «أحمد إسماعيل» قد توفى، والفريق «سعد الدين الشاذلى» قد أبع، وتبقى «محمد عبدالغنى الجمسى» - مدير العمليات أثناء الحرب ووزير الدفاع بعدها، و«محمد على فهمى» - قائد الدفاع الجوى، و"فؤاد ذكرى» - قائد البحرية.

هناك فارق جوهرى فى توصيف الأدوار التى حكمت قصة صعود وغروب الرئيس الأسبق «مبارك» بين ما هو عسكرى وما هو سياسى.

الخلط بين الأدوار لا يساعد على أية قراءة موضوعية تلم بحقيقة القصة وخلفياتها، التى لم تبح بكامل أسرارها حتى الآن.

ما هو عسكرى يرتبط بدوره، الذى لا يمكن إنكاره، فى حرب أكتوبر. وما هو سياسى تلخصه الأسباب التى أفضت إلى إطاحته من الحكم بتظاهرات مليونية لم يكن ممكنا تحديها فى «يناير» (2011).

التاريخ لا يعرف الأسئلة الافتراضية، لكنه يحق سؤال: هل كان ممكنا تجاوز «أحمد إسماعيل» لو كان ما يزال على قيد الحياة؟ الإجابة شبه اليقينية: «لا».

هناك شوائج وعلاقات خاصة جمعته مع «السادات». كلاهما ينتمى إلى جيل واحد ودفعة واحدة فى الكلية الحربية، وقد مكنته معاهدة (1936)، التى وقعها زعيم الوفد «مصطفى النحاس» من دخولها. رغم اقترابه من «جمال عبدالناصر»، ابن نفس الدفعة، لم ينخرط فى تنظيم «الضباط الأحرار».

ظل ضابطا محترفا طوال حياته، وقد عمل على تطوير قدراته العسكرية، مما أهله لتولى المناصب العليا قبل أن يصعد لتولى وزارة الحربية بعد الفريق «محمد صادق» قبل حرب أكتوبر مباشرة.

تداخل صعوده العسكرى مع أسطورتين، «عبدالمنعم رياض«، التى أكدها استشهاده على خط النار الأمامى أثناء حرب الاستنزاف، و«سعد الدين الشاذلى» رئيس أركان حرب أكتوبر، الذى أكسبه التنكيل المفرط به مكانة استثنائية فى المشاعر العامة.

فى القصص المتواترة عن الصدام المتوارث مع «الشاذلى» من أيام حرب الكونغو مال الرأى العام إلى القائد المضطهد الذى اختلف مع «السادات» وأدخله «مبارك» السجن، دون إدراك كاف لتكاملهما أثناء ملحمة الحرب.

تمكن «أحمد إسماعيل» بشخصيته الرحبة وتواضعه الإنسانى مقترنا بعلم عسكرى اكتسبه بدأب من فرض «هيبة الأب» على الضباط والجنود.

بتكوينه الأساسى فهو واقعى يتحسب لخطواته قبل أن يقدم عليها، كما حدث بالضبط عند تكليفه بخوض الحرب. طلب من «السادات» أن يكون التكليف محددا بدقة ومكتوبا.

عندما صاغ «هيكل» التوجيه الاستراتيجى لحرب أكتوبر، الذى تضمن: «تحدى نظرية الأمن الإسرائيلى».. عاد ليطلب من «السادات» إضافة «فى حدود الإمكانيات المتاحة». تكامل معه «سعد الدين الشاذلى»، بشخصيته شديدة الاعتداد بقدرتها على التخطيط العسكرى وإدارة عمليات القتال والعناية الفائقة بأدق التفاصيل فى بث الثقة الضرورية فى صفوف الضباط والجنود على كسب الحرب.

على عكس «الشاذلى» لم يُعهد عن «أحمد إسماعيل» أى خلافات مع «السادات». وقد تحملت ذكراه مسئولية ما جرى بعد رحيله من تحولات وانقلابات سياسية واجتماعية واستراتيجية نالت من أكتوبر، رجاله وبطولاته حين خذلت السياسة بطولة السلاح.

فى العام التالى (1974) بدأت سياسة الانفتاح الاقتصادى، التى وصفها الكاتب الكبير «أحمد بهاء الدين» بـ«السداح مداح». انقلبت الموازين والسياسات وأهدرت المعانى الكبرى التى قاتل من أجلها المصريون. كان هو نفس العام الذى رحل فيه دون أن يكون شريكا، أو طرفا، فى الانقلابات التى جرت.

إقرار الحقائق ضرورى لإنصاف رجل أكتوبر المنسى.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved