واحد من صناع الحياة
سامح فوزي
آخر تحديث:
الأربعاء 13 نوفمبر 2019 - 11:05 ص
بتوقيت القاهرة
منذ عدة أعوام زرت صديقا عزيزا، وهو قس انجليزى فى مكتبه فى «برايتون»، تناقشت معه فى موضوعات عديدة، ولكن أكثر ما لفت نظرى كتاب أهداه لى يسجل تجربة عدد من الشخصيات قدمت خدمات جليلة للآخرين بدافع إنسانى. أعجبنى أسلوب الكاتب فى توثيق تجاربهم حيث انتقل من منهج «الحكى» إلى تقديم «الدروس المستفادة» فى حياتهم.
لا أعرف لماذا تذكرت هذا الكتاب عندما علمت برحيل شخص أحبه وأقدره. ليس شخصية عامة حتى ينشغل به المجتمع، بل هو شخص عادى، اسمه المهندس نجيب جورج، كرس جانبا مهما من حياته فى خدمة الإنسان، ولاسيما الأطفال وذوى الاحتياجات الخاصة، الذين يحتاجون فائض جهد فى التعامل معهم. رجل لطيف. ابتسامته تسبقه، وهدوءه يميزه، بساطته تبهرك، وحكمته تأسرك. عرفته طفلا فى مدارس الأحد فى الكنيسة، تقدمت معه فى العمر، ولازمته بعض الوقت قبل أن تداهمنى مشاغل الحياة. عميق فى تفكيره، لا يميل إلى المواقف الحدية، استيعابى فى علاقاته بالآخرين، ويفضل العمل فى صمت. بسيط فى تعاملاته، ويعيش المبادئ التى يؤمن بها، ولذلك أثر فى كل من تعامل معه. لم يكن واعظا مفوها، ولا كاتبا ماهرا، لكنه كان شخصا بسيطا يخدم الناس، ويؤثر فيهم، يجدونه عند الاحتياج، ويشعرون عند الاقتراب منه بالدعم النفسى والإنسانى. بالمناسبة هؤلاء أكثر من يحتاج إليهم المجتمع، وقد أصبحوا للأسف عملة نادرة.
بالتأكيد هناك اشخاص مثله فى العمل الأهلى، أو الاجتماعى، أو الدينى، يتلهف عليهم مجتمع يعانى من فقر انسانى مريع، وجفاف فى نقل الخبرات، واستسلام إلى الفضاء الالكترونى، الذى يشغل المرء، ولكن لا يبنى تفكيره، أو يساعده على التفكير العقلانى أو تحديد اتجاهات صحيحة فى الحياة. وكثير من المشكلات التى يعانى منها المجتمع ناتجة ــ فى الأساس ــ عن ضعف التوجيه النفسى، وغياب الحوار مع أشخاص لهم خبرة ومعرفة على الصعيد الإنسانى، ولديهم طاقة استماع لمن حولها، ورغبة فى تقديم المساندة.
المفارقة أن «كارل ماركس» الفيلسوف العالمى الذى أغرق البشرية بأفكار الصراع الطبقى، والرأسمالية المستغلة، ونضال الطبقة العاملة، دعا إلى الالتصاق بأصحاب العمل الإنسانى. من عباراته المأثورة:
«أحط نفسك بالناس صناع السعادة الذين يهتمون بمن حولهم، هؤلاء يرسمون البسمة على وجهك، ويقدمون لك العون عندما تكون بحاجة إلى مساعدتهم».
فى الواقع أن هؤلاء الأشخاص الذين يشيعون بهجة، وإنسانية، وسعادة، وروحا طيبة يحتاجون إلى من يوثق تجاربهم، على غرار الكتاب الجميل الذى يوثق تجارب نظراء لهم فى بريطانيا، وتستمتع الأجيال الشابة بقراءة دروس مستفادة فى الحياة بأسلوب شيق يستخرج من الحكاية مغزى، ومن التجربة خبرة، ومن الحديث عبرة، توثيق انسانى جميل يخلص الحكايات من طابعها الشخصى، ويستخلص منها مبادئ تفيد الآخرين.
آفة المجتمع أو حارتنا ــ حسب وصف نجيب محفوظ ــ النسيان. نتكلم كثيرا، ونميل إلى الحكايات، والمأثورات العاطفية، دون أن نوثق الدرس والعبرة والتجربة التى يمكن نقلها لأجيال قادمة، وبمرور الوقت تلين العاطفة، وتتبخر الذكريات، ويخبو بريقها، ويصبح المتبقى فى الذاكرة مجرد صور باهتة عن أشخاص أعطوا كثيرا، واستحقوا أن يعرف الناس تجاربهم.
وداعا لشخص جميل أحببته، وتأثرت به.