يصعب الادعاء أن ما يطلق عليها «صفقة القرن» تقوضت نهائيا ومخططها الرئيسى ذهب بغير رجعة مع ريح الغضب، لكنها تلقت ضربة لا يستهان بها بأى حسابات تنظر فى مستقبل الإقليم وليس فى فلسطين وحدها.
لم يكن الاعتراف الأمريكى بالقدس عاصمة لإسرائيل خطوة منعزلة عن سياقها الإقليمى والترتيبات المحتملة بعد حسم الحرب مع «داعش».
إنهاء القضية الفلسطينية للأبد صلب تلك الصفقة حسب ما هو معلن ومنشور، فلا مرجعيات دولية لأى مفاوضات مقترحة، وضم نصف الضفة الغربية بالمستوطنات التى أنشئت عليها مسألة منتهية، ومصير القدس محسوم، ولا استعداد لأى كلام عن حق العودة المنصوص عليه فى قرارات للأمم المتحدة.
كل ما هو معروض على الفلسطينيين «دولة مسخ» بلا سيادة أو اتصال فى الأراضى مقابل التصفية النهائية لأعدل القضايا الإنسانية فى السبعين سنة الأخيرة.
ليست هناك مفاجأة واحدة فى أسباب ودواعى قرار الرئيس الأمريكى «دونالد ترامب»، فقد كان كل شىء معلنا قبل فترة طويلة نسبيا، وهو نفسه فى مؤتمر صحفى ضمه إلى رئيس الوزراء الإسرائيلى «بنيامين نتنياهو» فى البيت الأبيض ناهض علنا «حل الدولتين».
ربما كانت هناك مفاجأة فى التوقيت.
بعض الأسباب داخلية لترميم شعبيته المتصدعة أمام ناخبيه المتعصبين على خلفية التحقيقات الجارية بشأن التدخل الروسى فى الانتخابات، التى صعدت به إلى المكتب البيضاوى.
وبعض الأسباب إقليمية خشية أن تتعقد الحسابات على نحو لا يسمح بتمرير الصفقة دون أثمان باهظة لا تحتملها الدولة العبرية.
التزامن بين إعلان الجيش الروسى انتهاء مهمته فى سوريا بعد تصفية تمركزات «داعش» واحتفال العراقيين بإنهاء أى تمركزات مماثلة على أراضيهم واعتراف «ترامب» بالقدس عاصمة لإسرائيل والشروع فى نقل السفارة الأمريكية إليها لا يمكن أن يكون مصادفة.
الأقرب إلى الحقيقة أن الاعتراف الأمريكى هو استباق للتداعيات الممكنة فى توزيع القوة والنفوذ بالإقليم.
وفق موازين ميادين النار فقد تعاظمت المكاسب الاستراتيجية الروسية، التى أعلن رئيسها «فلاديمير بوتين» سحب جانب كبير من قواته فى سوريا، المهمة انتهت والحرب حسمت وجاء وقت التسويات الكبرى.
فى أى تسوية من مثل هذا النوع فإن للحقائق على الأرض كلمتها الحاسمة وخسارة الولايات المتحدة وحلفائها مما لا يمكن نفيه حتى أن المبعوث الأممى «استيفان دى مستورا» نصح المعارضة السورية فى مفاوضات جينيف إبداء مرونة أكبر حتى لا يجرى تهميشهم بالخطوات المقبلة.
وفق الحقائق الميدانية بتعقيداتها الإقليمية ابتعدت إلى حد كبير أشباح التقسيم عن سوريا والعراق.
كان المخطط الرئيسى لصفقة القرن أن يتمدد الدور الإسرائيلى بتحالف مع دول عربية على خلفية العداء المشترك لإيران فوق أنقاض القضية الفلسطينية ورمزية القدس ودون ممانعة فى ضم الجولان السورية إلى دولة الاحتلال.
وكان التقسيم هو السيناريو الأرجح للمصيرين السورى والعراقى، دون أن تتوقف اللعبة عندهما، غير أن ما جرى لم يوافق الرهانات، فلا الحقائق الميدانية زكت المضى فيه إلى النهاية، ولا الممانعات الإقليمية الإيرانية والتركية أفسحت المجال.
هكذا أجهض الاستفتاء على انفصال كردستان العراق وتقوضت إلى حد كبير أى رهانات فى تمدد لعبة التقسيم إلى دول عربية أخرى وفق ما أطلق عليه مجازا «سايكس بيكو جديدة»، التى قسمت بمقتضاها الخرائط العربية قبل مائة عام.
قبل توزيع القوة والنفوذ فى التسويات الكبرى، التى اقتربت مواعيدها، جاء الاعتراف الأمريكى عملا استباقيا لاقتناص اللحظة بتفاهماتها الخلفية مع دول عربية أبدت استعدادا مفتوحا لتطبيع العلاقات مع إسرائيل استراتيجيا واستخباراتيا واقتصاديا دون أن يرتهن ذلك بأى اشتراطات تقتضيها المبادرة العربية، التى تنص على الانسحاب الكامل من الأراضى المحتلة منذ عام (١٩٦٧) مقابل السلام الشامل.
بعض التفاهمات الخلفية شبه معلنة بتسريبات أمريكية وإسرائيلية، وبعضها الآخر قيد التكتم.
لم تكن زيارة الوفد البحرينى إلى القدس المحتلة غداة قرار «ترامب» إعلانها عاصمة لإسرائيل سوى قمة جبل جليد أغلبه غاطس حتى الآن.
ولم تكن تصريحات «نتانياهو» فى بروكسل عاصمة الاتحاد الأوروبى من أن دولا عربية تؤيد «قرار ترامب» محض افتراء، أو أن دولا أوروبية قد تحذوه بالقريب العاجل مجرد تمنى.
أفضل ما ينسب لموجات الغضب، التى عمت شوارع العالمين العربى والإسلامى وامتد فعلها إلى ميادين أوروبية وأمام البيت الأبيض نفسه، أنها أثارت حالة تنبه غير مسبوقة لمدى خطورة صفقة القرن، إذا ما مضت إلى نهاياتها.
للغضب قيمته فى تعطيل الصفقة لكنه لا يكفى وحده لمنع الخطر من أن ينفذ بعد أن تهدأ فورته.
توسيع «كامب ديفيد» بنقل تبعية الالتزامات الأمنية على جزيرتى «تيران» و«صنافير» من مصر إلى السعودية كان خطوة تمهيدية لضربات صفقة القرن.
والكلام الإسرائيلى المتواتر عن نزع شمال سيناء من الجسد المصرى كوطن بديل للفلسطينيين تمهيد آخر لنوع من التسوية تنهى الأزمة الديموجرافية فى فلسطين المحتلة على حساب الأمن القومى المصرى واحترام البلد لنفسه.
لا يمكن لأى بلد أن يتطلع لحماية أمنه القومى خارج حدوده إذا كان مستباحا فى داخله.
ما لم يتوقعه «ترامب» أن يفضى قراره إلى إعادة ترتيب الأواق من جديد، وعودة القضية الفلسطينية إلى صدارة الأولويات فى الإقليم.
على الأهمية الأكيدة لكل مظاهر الغضب والاحتجاج هنا وهناك، فإن مفتاح الموقف داخل الأراضى الفلسطينية المحتلة.
إذا تواصلت الانتفاضة الجديدة فإن مستويات الممانعة ترتفع وصفقة القرن تجهض وكل سياسة توضع على ميزان حساس يحكم لها أو عليها.
العمل الشعبى هو الأساس، وأى رهان آخر سابق لأوانه، فلكل حدث حديث، والحديث الآن للانتفاضة الفلسطينية الثالثة.
فى كل المداخلات الدبلوماسية باتساع العالم هناك إقرار واضح بأن اعتراف «ترامب» يتنكر لقواعد القانون الدولى ومرجعيات الأمم المتحدة ذات الصلة، غير أنه لا يترتب عليه بالضرورة إنهاء الدور الأمريكى، فسوف تبذل جهود وتجرى ضغوط على مراكز القرار الرخوة فى العالم العربى لإعادة الأمور إلى ما كانت عليه، بصيغة أو أخرى، باسم الواقعية السياسية.
باتساع مدى زخمها سوف تتزايد الضغوط لإثارة الفرقة داخل الصف الفلسطينى وبالتخاذل عن دعمها قد يفسح المجال لإجهاضها من الداخل.
بذات القدر فهناك إقرار آخر بأن اتفاقية «أوسلو» انتهت إلى فشل ذريع يتطلب إعادة إحياء منظمة التحرير الفلسطينية على نحو يتسق مع التحديات الجديدة والنظر فى حل السلطة دون أن يكون بوسع الإسرائيليين القيام بانقلاب يضع محلها سلطة عميلة، تشبه ما جرى فى جنوب لبنان قبل تحريره.
المصالحة الفلسطينية تحتاج تعريف جديد لا يقتصر على تقاسم السلطة والنفوذ بين رام الله المحتلة وغزة المحاصرة، فالأفق السياسى له الأولوية الآن لاكتساب الحقوق العادلة وإجهاض صفقة القرن.