الواقع.. والسياسة

سمير العيطة
سمير العيطة

آخر تحديث: الأحد 13 ديسمبر 2020 - 9:10 م بتوقيت القاهرة

عشر سنوات تقريبا مضت على الصراع فى سوريا.. وعليها. واللافت أنّ الخطاب السياسيّ السوريّ ومثله خطاب وسائل الإعلام حول الصراع ما زال محكوما بمنطق الأيّام الأولى. الإشكاليّة تكمُن حتّى فى التوصيف: أهى انتفاضة أم ثورة أم حرب أهليّة أم صراع ضدّ الإرهاب؟ ويتفرّد الخطّاب السياسى بإبراز مظالم الأمس، بل الأمس البعيد، لتبرير مواقف اليوم وأحيانا المطامع، الواهية، الكامنة وراءه.
واقع اليوم شديد البعد عن واقع الأمس. البلاد مقسّمة حسب القوى والأيديولوجيّات السائدة والاحتلالات الأجنبيّة. والناس، أى الشعب الذى يشكّل ازدهاره علّة وجود السياسة، يتضوّرون جوعا ويتسوّلون المساعدات من أهلهم فى الخارج أو من المنظّمات الدوليّة.
بالوقت نفسه، تجرى فى جنيف مفاوضات حول «دستورٍ» فى ظلّ غياب إحدى قوى السيطرة على الأرض ذات المشروع المختلِف. ويسترسِل رئيس السلطة القائمة فى تنظيرات وتهويمات حول فصل الدين عن الدولة، فيما يقف أهل من قُتِل أبناؤهم من أجل نزوة السلطة طوابيرَ بحثا عن.. رغيف الخبز. ويتبجّح «معارضون» ببذل الجهود لمحاكمة مرتكبى جرائم ضدّ الإنسانيّة، وكأنّ إدانتهم كافية لإعادة الإنسانيّة إلى بلدٍ تقاتل أبناؤه بوحشيّةٍ طائفيّة لا تليق إلاّ بالعصور الوسطى. المساءلة مهمّة ولكن مهمّا أيضا أن يبقى هناك شعبٌ ووطنٌ تتمّ المحاسبة من أجل التِئام جروحه. ويستمرّ آخرون، مستقوين بجيوش الخارج، فى مسيرتهم نحو تحقيق حلم «فرصة تاريخيّة» يعرفون أنّه يستفزّ أغلب السوريين كما جميع دول الجوار. فما الفرق إذًا بينهم وبين السلطة القائمة؟! وتتعالى أصوات «ناشطين» فى أروقة واشنطن بحثا عن عقوباتٍ جديدة فى ظلّ انهيارٍ اقتصاديّ ومعيشيّ كبير فى البلاد كلّها. كما تنشأ «منصّات» سياسيّة هنا وهناك، بل يُعاد «تركيب» منصّات فى عواصم إقليّمية ودوليّة، بحثا عن تجديد للعبة السياسيّة السوريّة ــ الإقليميّة القادمة.. علمًا أنّ الجميع يدركون أنّ لا أرضيّة شعبيّة لأيٍّ منها سوى فى وسائل إعلام الدول الراعية.
***
واقع سوريا اليوم بعيدٌ عن هذا كلّه وله تحديّاته التى تعجزُ السياسة إن كانت لها مصداقيّة عن مواجهتها.
من جهةٍ أولى، ما زالت الحرب قائمة وإن بوتيرةٍ أقلّ من السابق. والموقف السياسيّ الرئيسى يتركّز حول وقف المواجهة القائمة فى الجنوب بين القوى الموالية لروسيا وتلك لإيران والتدخّلات الإسرائيليّة، وكذلك حول القتال القائم فى الشمال الشرقى بين قوّات سوريا الديمقراطيّة (قسد) والجيش السورى من ناحية والفصائل الموالية لتركيا والجيش التركى من ناحية أخرى، ثمّ حول انسحاب المجموعات الجهاديّة إلى ما وراء طريق حلب ــ اللاذقيّة السريع.
من جهة أخرى، والأكثر أهميّة، هناك سبل معيشة السوريين فى جميع المناطق. النفط والسدود والمياه وشبكات الهاتف والبنى التحتيّة هى ملكٌ عامٌّ لجميع السوريين لا يجوز أن تستولى عليها قوّة وتحرم الآخرين منها، لا السلطة ولا قوى الأمر الواقع. ولا يحقّ لأحدٍ منحها لمصلحةٍ خاصّة تزيد من المعاناة بحجّة تخفيفها. والمساعدات الخارجيّة موجّهة للأكثر هشاشةً ولا يجوز الاتجار والتلاعب بها لبسط النفوذ بل ينبغى ترشيد أصنافها حيث يعيق بعضها الإنتاج الداخليّ ومعالجة أضرار تلزيمها لجمعيّات يتقاضى العاملون فيها أضعاف أجر العاملين حتّى الأشدّ مهارةً من بينهم. العمل الإنسانيّ ليس مهنةً بل تضحيّة من أجل الأكثر ضعفا. وفى حين تهتمّ الدول بالمعابر الحدوديّة لإدخال المساعدات إلى مناطق السيطرة المختلفة، تكمُن المشكلة الأساسيّة فى سوريا، بالتحديد والدقّة، بالمعابر بين هذه المناطق ذاتها التى تقطِّع أوصال البلد وتموِّل القتال والمقاتلين. بالتأكيد لم تؤدِّ العقوبات المفروضة من بعض الدول إلى ضرر مسئولى السلطة بقدر ما قطّعت سبل الاقتصاد والإنتاج وأخذ البلاد إلى كارثةٍ أكثر مأساويّة مع الانهيار الحالى فى لبنان.
وترتبط السياسة بممارسة الحوكمة من المستوى المحليّ حتّى الوطنيّ. هكذا لا توجد منافسة سياسيّة فى الانتخابات المحليّة فى مناطق السلطة، حتّى فى طرطوس الأكثر موالاةً، رغم أنّ فرصتها هناك ربّما تكون ذهبيّة للبرهان أنّها قابلة للإصلاح. وكذلك ليس هناك منافسة حقيقيّة فى مناطق «المعارضة» و«مجلس سوريا الديمقراطية»، بل توزان بين «مكوّنات» و«تعيينات بالتزكية»، ما لا يشير إلى محاولة صياغة نموذجٍ أفضل. واللافت هنا أنّ لا صوت حقيقيّا للنازحين الذين يشكّلون أحيانا شريحة كبيرة من السكّان المحليّين حيث يتواجدون منذ سنوات. هكذا كى يضيق الأفق، محليّا كما وطنيّا، بين أمراء الأمر الواقع، الذين تختلف الجهات الخارجية الداعمة لهم. كى تبدو نهاية المطاف، إن لم يكن تقسيم البلاد، فهى توزيع السلطة بين أمراء الحرب، كما حدث فى لبنان وأدّى إلى الكارثة اليوم.
***
السياسة هى أيضا موقفٌ من الشروخ الإيديولوجيّة التى أخرجتها الحرب إلى السطح وفاقمتها إلى درجةٍ تُنذِر بصعوبة، إن لم يكن استحالة، رأب صدوعها، فى ظلّ مزاعمَ مغلوطة سائدة، كلّها لا معنى لها فى الواقع. فها هم بعض سنّة سوريا يكتشفون أنّهم تارةً «طائفة» يجب الدفاع عن «حقوقها»، وتارةً أخرى أنّهم الأغلبيّة ويحقّ لهم فرض «رؤاهم»، أو ما يُدّعى أنّها رؤاهم، «ديمقراطيا» على الجميع. وها هم بعض «العلويّين» والمسيحيّين وغيرهم يكتشفون أنّهم «أقليّة»، ويخشون «انتقاما» إذا ما سقطت السلطة التى يعونَ جيدّا أنّها أخذتهم وأخذت البلاد جميعها إلى حيث لا ينبغى. وها هم بعض «الأكراد» ينبشون كلّ أشكال الظلم الذى تعرَضوا إليه منذ الماضى البعيد، وكأنّهم وحدهم من وقع الظُلم عليهم، للانطلاق بمشروعٍ سياسيّ يعرفون جيّدا أنّه لا يلقى توافقا وطنيّا سوريّا عليه، حتّى ضمن المنطقة التى تهيمن قسد عليها والتى كانت دوما مزيجا عربيّا كرديّا تركمانيّا آشوريّا أرمنيّا وغير ذلك، إذا استخدمنا توصيفات جماعات ما قبل الدولة الوطنيّة السوريّة. فكيف يُمكن للسياسة أن تطمح لبناء دولة المواطنة المتساوية فى ظلّ هذه الشروخ؟ وعبر أيّ خطاب ومن خلال أيّ تفاوض سورى داخليّ لا يقوم على الاستقواء بالخارج من هذا الطرف أو ذاك؟ وما «الديمقراطيّة» إذا كانت مجرّد توازنات بين «مكوّنات» تستتر وراء أعدادها إذا غابت الحريّات والدولة الواحدة السيدّة؟ وما «اللا مركزيّة» إذا لم يتمّ توضيح معناها وإن قوَّضت ما بقى من الدولة سوى السلطة.
وهناك أيضا تطوّرات نوعيّة فى الآونة الأخيرة تخصّ المنصّات السياسيّة السوريّة والقوى الخارجيّة الداعمة لها. هذا فى سياق تسارع فيه دولٌ عربيّة للتطبيع مع إسرائيل، والتعاون وحتّى التشارك مع مؤسساتها وشركاتها. وبالمقابل تقيّد دخول السوريين ــ كما اللبنانيين أيضا ــ إلى أراضيها. فهل يُنظّر إلى الشخصيّات والمجموعات السياسيّة التى تتمركز جهودها فى إحدى هذه الدول بالطريقة ذاتها كما من قبل؟ وما الموقف من شخصيّات ومجموعات تتبع لدولٍ تحتلّ صراحةً أرضا سوريّة؟
خلاصة القول. لا بدّ من إعادة إنتاج السياسة فى سوريا انطلاقا من واقع اليوم. الأمر ليس سهلا. والسوريّون لا يعانون وحدهم من معضلة تشمل لبنان والسودان واليمن وغيرها. ولكنّها ضرورة ملحّة، وهى فى غاية الصعوبة فى الوقت الراهن، ذلك أنّ الهدف فى النهاية هو خدمة مواطنى البلد ومستقبلهم، جميعهم.. دون استثناء.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved