وجه جديد لنجيب محفوظ يظهره الشاذلي
سيد محمود
آخر تحديث:
الثلاثاء 13 ديسمبر 2022 - 8:15 م
بتوقيت القاهرة
أجمل ما فى تجربة نجيب محفوظ أنها لا تزال قارة قابلة للاكتشاف وما إن تحل ذكرى ميلاده أو رحيله حتى تتوالى العناوين التى أنفق أصحابها الكثير والكثير لتأمل تجربته كأنها طريق لا ينتهى.
ولعل إحدى أهم القراءات الجديدة لرحلة صاحب نوبل جاءت هذا العام من محرر أدبى له تاريخه اللامع فى مهنة الصحافة وهو الأستاذ محمد الشاذلى الذى أصدر كتابا مهما عن هيئة الكتاب بعنوان «أيام مع نجيب محفوظ، حكايات وحوارات».
ويكفى هذا المحرر الكبير أنه كان تلميذا لاثنين من قمم الصحافة المصرية خلال الأربعين عاما الأخيرة، الأول هو مكرم محمد أحمد نقيب الصحفيين الشهير وأحد ألمع من أنجبت المهنة فى صحافة التحقيقات وكتابة الرأى، والثانى هو الناقد الكبير رجاء النقاش الذى يبقى رقما صعبا فى الصحافة الثقافية لا أظن أنه سيتكرر، لأنه كان مؤسسة راسخة وواضحة المعالم هناك ادلة كثيرة على وجودها وأثرها الذى لا يغيب.
وحين تنظر لجهده الصحفى لا تستطيع أن تكتفى بمنجز واحد، فقد كان بمثابة الساحر الذى يملك إلى جانب الوعى والذكاء الحاد خفة اليد وخفة الروح، وانظر معى إلى تجاربه كلها، فحين رأس تحرير مجلة الكواكب فى الستينيات ثم مجلة الهلال وبعدها الاذاعة والتلفزيون ثم تأسيس مجلة الدوحة.
فى كل تجربة ترك علامة على وجوده وعلى قدرته على الاكتشاف وصيانة المواهب ولا يمكن وصفه إلا بالجواهرجى، فى المجلة الاولى نال ثقة الكبار وأولهم أم كلثوم وكشف عن موهبة الشيخ إمام وأحمد فؤاد نجم وقدم فى المجلة الثانية الشاعر محمود درويش وراهن عليه وقبله صنع شعبية الروائى السودانى الطيب صالح وكان وراء نشر رائعته موسم الهجرة إلى الشمال فى طبعة شعبية فى مصر، وفِى المجلة الثالثة عرفنا على السوريين زكريا تامر وعبدالسلام العجيلى وقدم درسا بليغا فى صناعة المجلات الثقافية عميقة المحتوى، دون التنازل عن خفة الإيقاع
وكان النقاش بمثابة عاصمة من نوع خاص للثقافة العربية لا حدود لها لكنها تمشى على قدمين.
بخلاف دوره الصحفى منحه نجيب محفوظ وحده، من بين عشرات كانوا حوله ما منح من اعترافات وحوارات تشكل وثيقة لا غنى عنها لكل دارس نتج عنها كتابه الفريد «نجيب محفوظ صفحات من حياته وأدبه» الذى صدر فى طبعة أولى عن الاهرام وعدة طبعات بعدها عن دار الشروق التى أصدرت له كذلك فى حب نجيب محفوظ، وكان مثل الجواب يظهر من عنوانه وايضا كان النقاش هو الوحيد الذى اختاره محفوظ ليبقى فى غرفته إلى جوار زوجته حين أدلى بأقواله أمام النيابة وقت التحقيق فى جريمة اغتياله، لينقل شهادته للتاريخ، وقد أخبرنى بذلك المستشار الروائى أشرف العشماوى الذى كان من بين فريق التحقيق، كان بإمكان النقاش الفخر بأنه مصدر ثقة الاستاذ لكنه لم يفعل، لانه لم يكن فى سباق مع احد.
وقد تعلم الشاذلى من أستاذه أن يكون مثله «كاتم أسرار» وأعلم شخصيا انه لو جلس لكتابة مذكراته عن الحياة الثقافية فى ٣٠ عاما لكتب بلاوى لا يقدر ناشر على نشرها فقد كان مصدرا لثقة مسئولين فاعلين فى مؤسسات وزارة الثقافة أولهم الوزير الشهير فاروق حسنى الذى جلس على مقعد الوزارة أضعاف المدة التى جلسها وزراء مثل فتحى رضوان وثروت عكاشة وعبدالقادر حاتم وبدر الدين أبو غازى ويبدو الشاذلى فيما يرويه احيانا مثل بطل قصة أيوب لنجيب محفوظ يحتفظ بأسرار كثيرة لكن سره الأكبر لم يظهر بعد.
لديه ابتسامة لا تغيب تجعل الاصدقاء راضين بما يجود به من حكايات نعلم جميعا مدى صدقها وجديتها على الرغم من أنها تقارب أحيانا عوالم الفانتازيا من فرط غرابتها.
لدى كقارئ محترف مبررات كثيرة لأثق فيما أورده الشاذلى، فهو يتمتع باخلاق رفيعة إلى جانب مصداقية مهنية جبارة، وأعد نفسى من بين تلاميذه المحظوظين الذين افسح لهم الطريق عندما بدأوا ليتعلموا منه، ولن انسى كذلك أنه ذكر اسمى من بين الأسماء التى أوردها فى الكتاب، فقد كنت دائم الالحاح ليدون تجربته وهو فعل تأخر كثيرا حتى اقدم عليه لكن ان تأتى متأخرا خير من ألا تأتى.
سافر الشاذلى عام ١٩٨٨ مع الوفد الصحفى لحضور وقائع تسليم نوبل ويعرف جميع كواليس الحفل وادق تفاصيله بما فيها القضية التى أغضبت منه الكثيرين بشأن اصراره على اختيار الاستاذ محمد سلماوى لينوب عنه فى إلقاء كلمته ويكون مرافقا لابنتيه الكريمتين.
وداخل الكتاب يعطى المؤلف تفسيرا للكثير من المواقف التى تبنتها أسرة محفوظ وحقيقة بناء مسجد يحمل اسمه، هذا إلى جانب تفاصيل اخرى دقيقة عن علاقته بالرئيس المخلوع حسنى مبارك وهى لا تخلو من دلالة، كما لا يخلو تناوله للأيام الاولى التى أعقبت فوز محفوظ بنوبل من دلالات حول حالة الزهد التى عاشها محفوظ مكتفيا بالكتابة، ومنها انه ظهر فى التلفزيون المصرى بعد ايام من فوزه بأهم جائزة فى العالم تنفيذا لوعد أعطاه للشاذلى فى وقت كانت تلفزيونات العالم تأمل فى تصوير دقائق معه. وبينما كانا معا فى السيارة فى الطريق إلى التلفزيون كان الأستاذ يعرف أن رفيقه الصحفى الشاب يمتلك نسخة من «أولاد حارتنا»، وسأله بتواضع، عن إمكانية استعارة تلك النسخة لكى يقرأها رئيس مجلس الوزراء الدكتور عاطف صدقى، والذى طلبها يوم زيارته لمحفوظ فى بيته لتهنئته بالفوز بجائزة نوبل فاكتشف انها ممنوعة من النشر.
يملك ما يثير الفضول لجدية محتواه، ويفتح الكثير من الأبواب التى تستحق أن نطرقها، ونحن نعود للبيت الكبير الذى أسسه رجل مر من هنا اسمه محفوظ فى القلب والعقل.