قانون التأمين الصحى لا يتحمل الخطأ أو التردد
زياد بهاء الدين
آخر تحديث:
الإثنين 14 يناير 2019 - 8:55 م
بتوقيت القاهرة
لم يساورنى الشك للحظة واحدة، حينما صدر قانون التأمين الصحى الشامل منذ ما يقرب من عامين، إنه القانون الأكثر أهمية فى ملف الحماية الاجتماعية والسبيل الأفضل لتحقيق قدر كبير من العدالة فى مجتمع يعانى من اتساع متزايد للفجوة بين الفقر والثراء، ولهذا لم أتردد فى تأييده والحث على مساندة كل الجهود المبذولة لإنجاحه. ولكن يساورنى أخيرا الشك والخَوف من تعثر تطبيقه.
القانون لم يخلُ منذ وقت صدوره من مشاكل كثيرة كان ينبغى حلها وحسمها من البداية، على رأسها ضرورة تحديد نطاق التغطية التأمينية التى يمنحها لأنه لا يوجد نظام تأمينى فى العالم لا يتضمن حدودا للتغطية التأمينية وإلا تعرض للاستغلال وخطر الافلاس، وعدم وضوح الاليات التنفيذية لتأهيل وتجهيز الهيئات الثلاثة التى يمنحها القانون صلاحيات التمويل وتقديم الخدمات الصحية والرقابة، وعدم وضوح كيفية تطبيق القانون تدريجيا فى مختلف المحافظات على مدى زمنى يصل ربما إلى خمسة عشر عاما، واخيرا وليس آخرا طبيعة الرسوم والضرائب التى يفرضها القانون من اجل تمويل التغطية التأمينية الشاملة للشعب كله.
وهذه النقطة الاخيرة هى التى تستوقفنى الْيَوْمَ وتدفعنى للتحذير من أن يضطرب تطبيق القانون، وذلك فى ضوء ما نشرته وسائل الاعلام من قيام السيد وزير المالية بعقد اجتماع منذ بضعة ايام مع ممثلى القطاع الخاص ومهنة المحاسبة، معلنا فى نهاية الاجتماع استعداده لإعادة النظر فى الرسوم المفروضة على الشركات والانشطة التجارية وفقا للقانون.
وأصل الموضوع، لمن يهمه الأمر، ان قانون التأمين الصحى الشامل حينما عرض على البرلمان كان يتضمن مجموعة من الرسوم والضرائب المخصصة لتغطية جانب من تكلفة هذا النظام التأمينى الطموح وبخاصة تكلفة تغطية محدودى الدخل الذين ينص القانون على أن تدعمهم الدولة. وهذه رسوم وضرائب يفترض أن تكون مستندة لحسابات وتقديرات رياضية واجتماعية وصحية بالغة التعقيد (ما يعرف بالحسابات الاكتوارية) التى تجعل من الممكن تقدير المبالغ والموارد المطلوبة لتحقيق التغطية التأمينية الشاملة للشعب فى ضوء افتراضات معينة عن متوسط الأعمار والصحة والامراض والوفيات وما إلى ذلك مما يجعل الدراسات الاكتوارية تقف الْيَوْمَ على قمة التخصصات المهنية الرياضية الحديثة.
وبغض النظر عن دقة الحساب الإكتوارى الذى استند اليه القانون فى الأصل، فإن ما حدث أنه اثناء مناقشته فى البرلمان قام السادة النواب الموقرون بإدخال عدة تعديلات فى اللحظة الاخيرة فتم الإطاحة برسوم وضرائب معينة واستحداث اخرى، أغربها على الإطلاق رسم ربع فى الألف من حجم المبيعات السنوية لكل الشركات والانشطة الاقتصادية فى مصر. ووجه الغرابة أن المنطق الطبيعى أن تكون الضريبة على الربح وليس على الدخل وإلا تعرضت الشركات والانشطة لمعاملة غير عادلة، بالاضافة إلى صعوبة احتسابها وتقديرها وتحصيلها. ثم قيل فى تبرير هذا الوضع العجيب إن هذا رسم وليس ضريبة وبالتالى فلا يلزم أن يرتبط بالربح السنوى. ولكنه تبرير أقبح من الذنب، فالرسم يكون مقابل الخدمة، فهل يعنى هذا أن الشركات التى تقع فى محافظات لن تستفيد من التأمين الصحى إلا بعد سنوات طويلة ليست ملزمة بالدفع فورا؟ أم انها ستدفع دون تلقى الخدمة؟ وكيف يكون رسما وهو مرتبط بحجم المبيعات السنوية وليس بحجم الخدمة التأمينية؟ وما العمل فى الشركات التى ستدفع ثم يتبين أنها حققت خسائر نهاية العام؟ وهل المبالغ المدفوعة قابلة للخصم من الوعاء الضريبى أم لا؟ وما الذى جرى لمبدأ وحدة الموازنة أصلا؟
كل هذه المشكلات وغيرها ليست جديدة، وقد كتبت وعلقت عليها كما فعل غيرى منذ صدور القانون، ولهذا فإن اعلان السيد وزير المالية عن استعداده لإعادة النظر فى هذا الموضوع يجب أن يقابل بالترحيب. ولكنه يثير القلق أيضا من أن يتحول الموضوع إلى رد فعل سريع لإلحاح وضغوط الشركات ومجتمع الاعمال الذين يبحثون عن مخرج من هذا الرسم/ الضريبة الغامض والمناقض للمنطق، ومعهم الحق فى ذلك، فتأتى الحلول متعجلة وغير مستندة لأسس سليمة مرة اخرى.
عندى ثقة فى أن السيد وزير المالية ــ وهو بالمناسبة من الخبراء الاكتواريين المصريين القليلين ذوى الخبرة العالمية ــ مدرك للمشكلة وعالم بما ينبغى عمله، ليس فى الجانب الضريبى فقط ولكن فى مختلف جوانبه التمويلية. ولكن الموضوع يتجاوز وزارة المالية وبالتأكيد يتجاوز البرلمان، ويلزم اعتباره قضية مصيرية لا تحتمل الخطأ ولا التردد ولا الغموض ولا الاستسهال بحثا عن حلول عاجلة يترتب عليها إِمَا فشل نظام التأمين الصحى الشامل أو تعثره المالى بعد سنوات واللجوء للخزانة العامة لمزيد من التمويل الذى لا قرار له.
الموضوع خطير ويحتاج حسما ووضوحا ومصارحة حتى يكون أى تعديل مقبل للقانون مستندا لحسابات وتقديرات علمية وواقعية قبل فوات الأوان.