تيران وصنافير.. المخرج المقترح
بهجت قرني
آخر تحديث:
الأربعاء 15 فبراير 2017 - 11:19 ص
بتوقيت القاهرة
بعد فترة من الحدة الزائدة وحتى الاستقطاب شعبيا وعلى جانبى البحر الأحمر، تتاورى أزمة تيران وصنافير عن الأنظار، إعلاميا وبالتأكيد مؤقتا. قد يكون هذا للتهدئة، وهو أسلوب معترف به وحتى مفيد فى إدارة الأزمات، بين الدول أو بين الأشخاص. ولكن الخطورة ألا تغرق الممارسة بين التهدئة والإهمال، لأن ترحيل الأزمة هو مثل وجود ميكروب فى خراج، إذا لم يتم التعامل معه بجدية يصيب أجزاء الجسم الأخرى بالعدوى، وينفجر لتنتشر إفرازاته الضارة على مستويات عدة ومساحة أكبر، لذا يجب استغلال فترة التهدئة جيدا. كيف؟
متابعة مراحل تطور موضوع تيران وصنافير يبين أنه تطور من خلاف جزئى لا يشعر به الكثيرون ثم إلى نزاع منذ ثمانينيات القرن الماضى ثم إلى أزمة، خاصة فى أبريل من العام الماضى بعد توقيع الحكومة المصرية اتفاقا يعترف بحق السعودية فى الجزيرتين، وذلك فى ظروف خاصة دون إعداد الشعب لهذا الاعتراف المصرى الرسمى أو التزام الحد الأدنى من الشفافية فى شرح هذا الاعتراف ووثائقه القانونية، ثم جاء الإخراج السيئ لهذه المفاجأة أثناء زيارة الملك سلمان ووفده إلى مصر، مما أثار أقاويل عدة، كما أن القبض على بعض من تظاهروا ضد هذا الاعتراف الرسمى زاد من توتر الموقف لكى يتحول من الناحية القانونية عن أحقية مصر أو السعودية إلى استقطاب شعبى ملتهب وشعارات تزيد هذا الالتهاب مثل «عواد باع أرضه». وفى الحقيقة فإن حكم الإدارية العليا الشهر الماضى ببطلان اتفاقية تيران وصنافير وحيثياتها زاد هذا الموقف السياسى التهابا، حيث أثار الكثيرون أن المستشار «أحمد الشاذلى» ــ نائب رئيس مجلس الدولة والذى أصدر الحكم ــ ينتمى إلى عائلة الجنرال «سعد الشاذلى» المعروف بوطنيته ومعارضته للكثير من سياسات السادات أثناء حرب أكتوبر وحتى زيارة القدس، مع أن المفروض أن الروابط العائلية والاتجاهات الشخصية لا تتدخل فى أحكام يكون أساسها الحيثيات القانونية. كما طالب بعض النواب كل من وقع وشارك فى اتفاقية تيران وصنافير للتقدم باستقالته، وجاءت بعض عناوين المقالات الصحفية أكثر إدانة عن «تعرية المتنازلين فى تيران وصنافير» وحتى تبنى حملات مجتمعية لحماية حكم القضاء، بل وسحب الجنسية من رافضيه والمطالبة بمحاكمتهم بتهمة الخيانة!
من هذه المتابعة المختصرة يتضح أمرين أساسيين:
١ــ أصبح الموقف القانونى مناقضا تماما لما تعهدت به الحكومة عند توقيعها الاتفاقية فى أبريل الماضى، حيث رصدت جريدة «الشروق» مثلا أن ٢٠ وثيقة ترسخ حكم الإدارية العليا كما أن العديد من كبار القضاة يؤكدون أن «كل الطرق تؤدى إلى مصرية تيران وصنافير». ولكننا أيضا وجدنا بعد التوقيع فى أبريل بعض الأصوات التى لا يشك فى التزامها الوطنى من د. هدى عبدالناصر (فى برنامج هنا العاصمة مع أ. لميس الحديدى فى 25 أبريل 2016) إلى هيكل (سنوات الغليان 1988) تؤيد أحقية السعودية. أهمية حكم الإدارية العليا أنه يحسم الموضوع قانونيا على المستوى المصرى، ولكنه فى المقابل يثير مشكلة من أعقد المشاكل القانونية: وهو تعارض القوانين وحيثياتها بين الداخل والخارج، خاصة بعد توقيع الاتفاقية من جانب الحكومة المصرية معترفة بالحدود البحرية السعودية.
٢ــ الاستنفار الشعبى القوى، مصريا بالطبع، وكذلك على المستوى السعودى كما يتبين من كتابات بعض الإعلاميين السعوديين، أو التلميح باستخدام العمالة المصرية فى السعودية كورقة ضغط أو حتى إضعاف مصر خارجيا مثل زيارة الوفد السعودى لموقع سد النهضة فى إثيوبيا.
كيف نخرج من هذا الموقف المعقد ذى الآثار الضارة، ثنائيا وإقليميا فى وقت لا نحتاج فيه بالمرة إلى زيادة الأزمات.
المخرج لن يكون إلا سياسيا..
فالعلاقات المصرية ــ السعودية ليست مهمة للدولتين فقط، ولكن للمنطقة ككل. فهما الدولتان المحوريتان فى وقت تعانى فيه المنطقة العربية بأسرها من تفكك رهيب، وصل إلى أكبر استهانة من الخارج. ألم نلاحظ أن مؤتمر الاستانة منذ أسبوعين يحاول تقرير مصير سوريا دون دعوة أى دولة عربية ويكتفى على المستوى الإقليمى بحضور دولتين غير عربيتين: تركيا وإيران. ألا يذكرنا هذا باتفاقية سايكس ــ بيكو بعد أكثر من قرن من حدوثها، ولكن هذه المرة فى العلن؟! إذن ضمان مسيرة العلاقات المصرية ــ السعودية مطلوب ليس فقط على المستوى الثنائى ولكن الإقليمى أيضا.
عمليا، كيف يكون استكشاف وتخطيط الحل السياسى فى إطاره الأوسع بحيث لا يقتصر على تيران وصنافير بل ينظر إلى المستقبل؟ يكون هذا بتخطيط هذه العلاقات بدلا من تركها فى مهب الريح. أحد أهم أساليب هذا التخطيط فى الحاضر هو استخدام أسلوب المحاكاة Simulation الذى يعرفه العسكريون جيدا ونمارسه نحن وبكثرة فى العلاقات الدولية. يتعاون مثلًا عدد من مراكز البحث فى الدولتين فى عقد ورشة عمل مشتركة، مثلا من مصر مركز الأهرام، مركز دراسات الشرق الأوسط، مركز تسوية المنازعات المرتبط بوزارة الخارجية. ومن السعودية المعهد الدبلوماسى، مركز الخليج للأبحاث أو مركز الملك فيصل.
من الأهمية فى هذه المحاكاة ألا يمثل كل وفد بلده، ولكن البلد الآخر. أى أن السعوديين يصبحون مصريين، والمصريون سعوديين. الهدف من تبادل الأدوار هذا هو تجنب فخ تكرار المواقف المعلنة التى قادتنا إلى الطريق المسدود الحالى. وأهم من ذلك أن يساعد تبادل الأدوار كل طرف على المعرفة الدقيقة لوجهة نظر الطرف الآخر وتفاصيله «معيشيا» وعلى الأرض. وهكذا لن تتقدم المفاوضات فقط بل نتجنب الاستقطاب الحالى الذى يغذى الأزمة.
تسمح المحاكاة أيضا بتوسيع الإطار لكى يتعدى الإشكالية المحددة حول تيران وصنافير لينظر إلى العلاقات المصرية ــ السعودية بطريقة أشمل حيث عوامل القوة التى تتكامل والتحديات التى تواجه كل طرف، من الصراع فى اليمن والموقف من إيران ــ ذات الأهمية الخاصة للأمن القومى السعودى، إلى التحديات الاقتصادية التى تواجه مصر حاليا. سيرى «اللاعبون» أو المشاركون فى المحاكاة مثلا أن تيران وصنافير هو موضوع مبدأ قانونى أو حتى مساحة من الرمال بالنسبة لحدود السعودية، بينما هى لمصر جزء لا يتجزأ من السيكولوجية الشعبية الجمعية، ليس لأهل هذا البلد فقط ولكن للعرب أيضا منذ حرب ١٩٦٧. ويعنى هذا أن القبول بمصرية الجزيرتين أسهل نسبيا للرياض، بل قد يكون هناك مكسب أيضا للسعودية عن طريق تكوين رصيد شعبى ضخم لها بين المصريين، بل يصبح هؤلاء حكومة وشعبًا أكثر استعدادا للوقوف بجانب السعودية فى مواجهة التحديات لأمنها القومى فى اليمن أو غيرها. وهكذا تقوم المحاكاة على «خد وهات» هنا وهناك فى إطار استراتيجى عام يأخذ كل المعطيات فى الحسبان، ثنائيا وإقليميا، فى الحاضر وللمستقبل، فى وقت تكون فيه المنطقة على المحك وتحتاج إلى بوصلة: أى علاقات مصرية ــ سعودية متينة.