حول الوقاية من العواصف المالية!
محمد يوسف
آخر تحديث:
الأربعاء 14 فبراير 2018 - 11:05 م
بتوقيت القاهرة
كلما هبت «عاصفة مالية» على أسواق المال فى المراكز الرأسمالية العالمية، نسمع صداها سريعا فى أسواقنا المالية المحلية، ونرى آثارها جلية على كل مؤشرات هذه الأسواق. وعندما تأتى «نسائم» الاستقرار والنمو فى تلك الأسواق العالمية، لا تنتقل لأسواقنا بنفس السرعة، وغالبا لا تجد لها ذات الأثر.
أثناء كتابة هذه السطور، تشهد سوق الأوراق المالية الأمريكى تقلبات حادة فى المؤشرات الرئيسية للأسهم والسندات المتداولة فيه. فالمؤشر «داو جونز» الذى يتكون من أسهم كبريات الشركات الصناعية الأمريكية، ومع مطلع شهر فبراير الحالى، مُنى بخسائر رأسمالية تجاوزت حاجز 1000 نقطة من قيمته السوقية. وفى الوقت ذاته، تراجعت قيمة مؤشر «ستاندرد أند بورز» ومؤشر «ناسداك» بمعدلات قياسية، ولكنها أقل فى حدتها مما شهده المؤشر الرئيسى «داو جونز».
ولئن كانت تقلبات حادة كهذه تُذكر المتابعين والمحللين للأوضاع المالية العالمية ــ من حيث العمق وفجائية الحدوث ــ بانهيارات الأسهم فى العام 2008، والتى حدثت فى السوق الأمريكية، وانتقلت آثارها، كالنار فى الهشيم، إلى باقى الأسواق المالية العالمية، وللدرجة التى لُقبت حينها بمسمى «الأزمة المالية العالمية»، فهل الاقتصاد العالمى بصدد تكرار لوقائع هذه الأزمة؟ وهل ستنتقل آثارها للأسواق المالية فى البلدان النامية؟ التفسير الدقيق للتقلبات الجديدة فى سوق الأوراق المالية الأمريكية يمكنه الإجابة عن هذا التساؤل.
***
لقد انبرت مقالات وتقارير صحفية عديدة لتقدم تفسيرا وافيا لهذه التقلبات. وقد أرجعت أغلبها حدوث هذا التراجع فى سوق الأوراق المالية نتيجة للنمو المتوقع فى نصيب الأجور من الدخل الوطنى الأمريكى. ولما كانت زيادة الأجور تعنى زيادة مماثلة فى تيارات الطلب الاستهلاكى فى أسواق السلع والخدمات، فإن ذلك يفضى إلى ارتفاع معدلات التضخم الأمريكية. وعندما تزداد توقعات التضخم هناك، يصبح لزاما على الاحتياطى الفيدرالى الأمريكى (البنك المركزى الأمريكي) أن يرفع أسعار الفائدة، لكى يقلل من الضغوط التضخمية فى الأسواق، ولكى يحاصر فرص نموها فى المستقبل. بيد أنه عندما ترتفع أسعار الفائدة بمعدلات تعلو على المعدلات السابق إعلانها من الاحتياطى الفيدرالى، تحدث الصدمات فى الأسواق المالية، وتتهاوى أسعار الأسهم والسندات. أى أن هذه القصة الأمريكية القصيرة ابتدأت بالأجور المرتفعة، وانتهت بالأسهم المنخفضة.
وبغض النظر عن باقى التفاصيل التى تحويها هذه القصة القصيرة، والتى تفسر المسببات الكاملة لهذه العاصفة المالية الأخيرة، إلا أن الملاحظة الرئيسية التى يجب أن نسجلها للقارئ على مضمونها، هى أنه مهما ارتفعت الآثار السلبية التى تحدث فى سوق الأوراق المالية الأمريكية، فإن هذه السوق دائما ما تخرج سريعا من كبوتها، ولا يبقى من الآثار السلبية التى تحدث فيها إلا الأثر الانتشارى على الأسواق العالمية، وخصوصا الأسواق المالية فى البلدان النامية. يشهد على هذه الملاحظة ما حدث فى أعقاب الأزمة المالية العالمية فى العام 2008. فبعدما مُلئت الدنيا صخبا بضراوة هذه الأزمة، وبعدما أصبح ذكرها آنئذ لا يخلو منه أى محفل دولى، إذ بغبارها ينقشع سريعا عن السوق الأمريكية، وكأن شيئا لم يكن. وإذ بالأسهم الأمريكية يشتد عودها من جديد، وتعود أوضاعها المالية لأفضل مما كانت عليه، ولا يتبقى من أثرها إلا الخسائر الرأسمالية فى الأصول المالية الدولية، وتحديد المملوك منها للبلدان النامية.
إن هذه الملاحظة تجعلنا نقول إنه حتى لو افترضنا جدلا أن هناك ثمة احتمال بأن يتكرر سيناريو أزمة 2008 (وهو بطبيعة الحال احتمال ضعيف)، فإن الأسواق المالية فى البلدان النامية ستظل هى الخاسر الوحيد منها، وستتمكن أسواق المال بالدول المتقدمة من استيعابها سريعا. فالمتانة فى الأسواق المالية للدول المتقدمة، والهشاشة فى الأسواق المالية للدول النامية، ستُعيد إذن إخراج نفس وقائع ما بعد أزمة 2008، تماما كما لو أننا نضع الأزمة القديمة فى ثوب جديد!
على أننا نرى أن الأهم من مناقشة احتمالات تكرار أزمة 2008 هو محاولتنا تقديم تفسير منطقى للفروق الجوهرية بين خصائص سوق الأوراق المالية الأمريكية، كنموذج معبر عن باقى أسواق البلدان المتقدمة، وبين خصائص أسواق البلدان النامية، ومن بينها سوق الأوراق المالية المصرية.
وفى رأينا أن هذه الفروق تعزو لسببين رئيسيين. أولهما هو أن أسواق البلدان المتقدمة تعتبر انعكاسا ماليا كاملا لواقع اقتصادى حقيقى ومتطور وقادر على استيعاب الصدمات المالية بأقل قدر من الخسائر. فى حين أن أسواق البلدان النامية لا تعبر عن نفس هذا الواقع المتقدم والمتطور، إذا كانت تعبر عنه من الأساس. أما السبب الثانى للفوارق بين أحوال الأسواق المالية فى البلدان المتقدمة والنامية يكمن فى شكل واتجاه العلاقة بينها. فطبيعة العلاقات الاقتصادية بين هاتين المجموعتين من الدول، وتبعية الثانية للأولى فى مجالات التجارة والاستثمار، تجعل الروابط القائمة بين أسواقهما المالية تنقل الآثار السلبية للتقلبات المالية دون الإيجابية منها. فأسواق الأولى فاعلة، وأسواق الثانية مفعول بها!
****
هناك عدد من الأسئلة الملحة التى يطرحها التحليل السابق. إذ يحق للقارئ أن يتساءل عن أسباب وقوف أسواق البلدان النامية دائما فى مربع المفعول به فى روابطها مع الأسواق الدولية. وله أن يتساءل عن الأسباب التى تجعل هذه الأسواق المالية لا تمثل انعكاسا كاملا لأوضاعها الاقتصادية المحلية. وله أيضا أن يتساءل عن الكيفية التى يمكن بها تطوير هذه الأسواق، وللدرجة التى تقيها شرور العواصف المالية التى تهب عليها دائما من الأسواق المالية الدولية.
إن النقاط التالية، والتى تبرز إجابتنا عن هذه الأسئلة، توزع المسئولية على نوعين من العوامل، أحدهما خارجى، والآخر داخلى.
فعلى صعيد العوامل الخارجية، فلقد شهدت البلدان النامية ميلادا مشوها لأسواقها المالية. فبينما تنشأ وتتطور هذه الأسواق أساسا لتتولى ــ إلى جانب الجهاز المصرفي ــ تعبئة الادخار الوطنى وإتاحته لتمويل الاستثمار فى الأنشطة الاقتصادية المختلفة، فإن أغلب أسواق هذه البلدان نشأت منقطعة الصلة بهذا الهدف السامى، واقتصرت أسباب نشأتها على خدمة قطاع العالم الخارجى فى الاقتصاد، سواء لتسهيل الأنشطة المالية للشركات دولية النشاط، أو لخدمة أنشطة المضاربة المحلية محدودة الأثر التنموى. وفاقم من ذلك الميلاد المشوه، سياسة التحرير غير المنضبط للحساب الرأسمالى فى أغلب البلدان النامية. فعلى إثر ذلك التحرير، انكشفت مراكزها المالية الدولية، واشتدت حدة التقلبات المالية التى تشهدها تلك الأسواق بفعل سيول الأموال الساخنة، تلك الأموال التى تهيم على وجهها عالميا بحثا عن الربح السريع، ودون أدنى اعتبار للتنمية الاقتصادية فى الدول المتلقية لها.
وإذا انتقلنا إلى العوامل الداخلية التى تحول دون أن تصبح الأسواق المالية فى البلدان النامية انعكاسا لأوضاعها الاقتصادية الحقيقية، فإن الماثل أمامنا عوامل ثلاثة. أولا: التنظيم غير الكفء لسوق الإصدار (السوق التى تصدر فيها الأسهم والسندات الجديدة). فغياب المعايير الموضوعية للكفاءة عن سوق الإصدار، قلل من جاذبية هذه السوق لدخول الشركات المساهمة الجديدة، وجعل أغلبها من النوعية المغلقة أو العائلية، فى ظل تراخى تشريعى للتصدى لهذه الظاهرة المرضية. ثانيا: الرقابة القاصرة فى سوق التداول (السوق التى تتداول فيها الأسهم والسندات المصدرة). وبسبب ضعف الدور الرقابى على أنشطة المضاربة، تسيطر الاحتكارات على عمليات التداول، وتغيب الشفافية عن صغار المضاربين، وتقل الحوافز على دخول مضاربين جدد، وبما يقلل من الآثار التنموية لأنشطة المضاربة. ثالثا: غياب الوعى الاستثمارى لدى القاعدة العريضة من مواطنى البلدان النامية. ولما كان هذا الوعى هو أحد الأسباب الرئيسية لنهضة الأسواق المالية بالبلدان المتقدمة، فإن غيابه عن البلدان النامية يضع مزيدا من القيود على أن تنهض هذه الأسواق بدورها الأساسى المتمثل فى تعبئة الادخار المحلى وإتاحته للاستثمار الانتاجى.
وبتفاعل العوامل الخارجية والداخلية السابقة، تتحول الأسواق المالية فى البلدان النامية لمجرد أسواق تابعة للمراكز المالية العالمية، وتمضى منقطعة الصلة بحقيقة النشاط الاقتصادى القائم خارجها، وتصبح مجرد صالات مغلقة على فئات محدودة من المضاربين الماليين، ليمارسوا فيها أنشطة مالية غير تنموية. وعندما وصلت تلك الأسواق لهذه المرحلة، لم يكن من المستغرب أن تتزامن مكاسب أنشطة المضاربة فى أروقتها، مع معاناة الاقتصاد الحقيقى من تراجع فى مؤشراته الأساسية.
****
إن كاتب هذه السطور يرى أنه لكى يُعاد إحياء أسواق المال فى البلدان النامية لتصبح إحدى ركائز التنمية الاقتصادية، ولتتمكن من مجابهة التقلبات والعواصف المالية المستوردة، فإن صانع سياستها الاقتصادية مُطالب بتطوير جميع الأنظمة والتشريعات الاستثمارية والرقابية فى أسواقها المالية، لكى تتكسر بداخلها الاحتكارات الظالمة، وتعلو فيها المنافسة العادلة، فتصبح جاذبة لولوج مدخرين ومستثمرين جُدد. كما أنه مُطالب بالتعاون مع باقى الجهات ذات الصلة، للإنفاق على نشر الوعى المالى بين جمهور المدخرين والمستثمرين المحتملين، وتحفيزهم على الدخول إلى عالم الأسواق المالية المحلية. وقبل كل ذلك، هو المسئول الأول عن التقييد الواعى لحساب رأس المال فى ميزان المدفوعات، والوقوف بالمرصاد أمام التدفقات المالية الدولية قصيرة الأجل، والتى لا تأتى أبدا لكى تصنع التنمية، بل لتعرقلها!