الأزهر وشيخه ووثائقه؟!
ناجح إبراهيم
آخر تحديث:
الجمعة 14 فبراير 2020 - 8:10 م
بتوقيت القاهرة
يتفنن البعض فى إهالة التراب بين الحين والآخر على أكبر مؤسسة إسلامية فى العالم كله وأهم قوة مصرية ناعمة، وعلى شيخها الفاضل د/أحمد الطيب الذى يعد من أفضل وأسمى من صعد لسدة المشيخة، علما وزهدا وورعا وتعففا، فهو الأول فى تاريخ الأزهر الذى لا يقبل هدايا الملوك وما أدراك ما هدايا الملوك، ويأبى أن يتقاضى مرتبا، ولا يركب سيارة المشيخة أثناء إجازاته، ويعيش فى نفس الشقة البسيطة التى عاش فيها طوال حياته، فضلا عن علمه وتطويره لكل الآليات الأزهرية وتجديده المتواصل فى المنظومة الأزهرية مع صلابته فى الحق، ودفاعه المستميت عن الشريعة، ودورانه حولها وليس حول متاع الدنيا الزائل، ورغم لك كله يطالبون هذا الشيخ العبقرى خريج السوربون بالتجديد وأكثرهم لا يريدون التجديد بل التبديد.
والغريب أن أكثر المطالبين له بالتجديد لا يصنعون أى تجديد يذكر لا فى الإعلام أو الاقتصاد أو السياسة أو التعليم فكل هذه المجالات راكدة ركود البحر الميت.
ولم يتأمل هؤلاء وثائق الأزهر الشريف الست التى أنتجها بعلمائه ومفكريه مع ثلة من مفكرى ومثقفى مصر، ولو تأملوها يوما لأنصفوا الأزهر.
وهذه مجموعة مختصرة من بعض بنود هذه الوثائق التى بدأت بعد ثورة يناير وكان آخرها وثيقة الأخوة الإنسانية التى عرضناها من قبل.
وهذه الوثائق تحمل العناوين الآتية:
وثيقة مستقبل مصر 19 يونيو 2011.
وثيقة دعم إرادة الشعوب العربية وكانت بتاريخ 30 أكتوبر 2011.
وثيقة منظومة الحريات الأساسية وكانت بتاريخ 8 يناير 2012.
وثيقة القدس الشريف وكانت بتاريخ 20 نوفمبر 2011.
وأرجو من القارئ الكريم أن يتفحص هذه البنود جيدا ليدرك أن الإمام الطيب من أعظم مجددى عصره وأكثرهم حبا للإسلام وحماية له ودورانا حوله:
دعم تأسيس الدولة الوطنية الدستورية الديمقراطية الحديثة، التى تعتمد على دستور ترتضيه الأمة، يفصل بين سلطات الدولة ومؤسساتها القانونية الحاكمة، ويحدد إطار الحكم، ويضمن الحقوق والواجبات لكل أفرادها على قدم المساواة، بحيث تكون سلطة التشريع فيها لنواب الشعب، بما يتوافق مع المفهوم الإسلامى الصحيح.
لم يعرف الإسلام لا فى تشريعاته ولا حضارته ولا تاريخه ما يعرف فى الثقافات الأخرى بالدولة الدينية الكهنوتية التى تسلطت على الناس، وعانت منها البشرية فى بعض مراحل التاريخ،بل ترك للناس إدارة مجتمعاتهم واختيار الآليات والمؤسسات المحققة لمصالحهم، شريطة أن تكون المبادئ الكلية للشريعة الإسلامية هى المصدر الأساس للتشريع، وبما يضمن لأتباع الديانات السماوية الأخرى الاحتكام إلى شرائعهم الدينية فى قضايا الأحوال الشخصية.
اعتماد النظام الديمقراطى، القائم على الانتخاب الحر المباشر، الذى هو الصيغة العصرية لتحقيق مبادئ الشورى الإسلامية، بما يضمنه من تعددية ومن تداول سلمى للسلطة، ومن تحديد للاختصاصات، ومراقبة للأداء، ومحاسبة للمسئولين أمام ممثلى الشعب، وتوخى منافع الناس ومصالحهم العامة فى جميع التشريعات والقرارات.
الالتزام بمنظومة الحريات الأساسية فى الفكر والرأى، مع الاحترام الكامل لحقوق الإنسان والمرأة والطفل، والتأكيد على مبدأ التعددية واحترام الأديان السماوية، واعتبار المواطنة مناط المسئولية فى المجتمع.
الاحترام التام لآداب الاختلاف وأخلاقيات الحوار، وضرورة اجتناب التكفير والتخوين واستغلال الدين أو استخدامه لبث الفرقة والتنابذ والعداء بين المواطنين، واعتبار أن الحث على الفتنة الطائفية والدعوات العنصرية جريمة فى حق الوطن.
تأكيد الالتزام بالمواثيق والقرارات الدولية،والتمسك بالمنجزات الحضارية فى العلاقات الإنسانية، المتوافقة مع التقاليد السمحة للثقافة الإسلامية والعربية، والمتسقة مع الخبرة الحضارية الطويلة للشعب المصرى فى عصوره المختلفة.
الحرص التام على صيانة كرامة الأمة المصرية والحفاظ على عزتها الوطنية
تأكيد العناية التامة والاحترام الكامل لدور العبادة لأتباع الديانات السماوية الثلاث، وضمان الممارسة الحرة لجميع شعائرها الدينية دون أية معوقات، واحترام جميع مظاهر العبادة بمختلف أشكالها، دون تسفيه لثقافة الشعب أو تشويه لتقاليده الأصيلة، اعتبار التعليم والبحث العلمى ودخول عصر المعرفة قاطرة التقدم الحضارى فى مصر،وتكريس كل الجهود لتدارك ما فاتنا فى هذه المجالات، وحشد طاقة المجتمع كله لمحو الأمية.
إعمال فقه الأولويات فى تحقيق التنمية والعدالة الاجتماعية، ومواجهة الاستبداد، ومكافحة الفساد، والقضاء على البطالة بما يفجر طاقات المجتمع وإبداعاته.
بناء علاقات مصر بأشقائها العرب ومحيطها الإسلامى ودائرتها الإفريقية والعالمية على أساس وثيق.
تأييد مشروع استقلال مؤسسة الأزهر وعودة (هيئة كبار العلماء) واختصاصها بترشيح اختيار شيخ الزهر والعمل على تجديد مناهج التعليم الزهرى، ليسترد دوره الفكرى الأصيل وتأثيره العالم يفى مختلف الأنحاء.
تعتمد شرعية السلطة الحاكمة من الوجهة الدينية والدستورية على رضا الشعوب، واختيارها الحر، من خلال اقتراع علنى يتم فى نزاهة وشفافية ديمقراطية، باعتباره البديل العصرى المنظم لما سبقت به تقاليد البيعة الإسلامية الرشيدة.
عندما يرتفع صوت المعارضة الوطنية الشعبية والاحتجاج السلمى، الذى هو حق أصيل للشعوب لتقويم الحكام وترشيدهم، ثم لا يستجيب الحكام لنداء شعوبهم، ولا يبادرون بالإصلاحات المطلوبة، بل يمعنون فى تجاهل المطالب الوطنية المشروعة التى تنادى بالحرية والعدالة والإنصاف، فإن هؤلاء المعارضين الوطنيين لا يعدون من قبيل البغاة أبدا، وإنما البغاة هم الذين تحددت أوصافهم فقهيا بامتلاك الشوكة والانعزال عن الأمة، ورفع الأسلحة فى مواجهة مخالفيهم، والإفساد فى الأرض بالقوة، أما الحركات الوطنية السلمية المعارضة، فهى من صميم حقوق الإنسان فى الإسلام التى أكدتها سائر المواثيق الدولية.
يتعين على قوى الثورة والتجديد والإصلاح أن تبتعد كليا عن كل ما يؤدى إلى إراقة الدماء، وعن الاستقواء بالقوى الخارجية أيا كان مصدرها، ومهما كانت الذرائع التى تتدخل بها فى شئون دولهم وأوطانهم وإلا كانوا بغاة خارجين على أمتهم وعلى شرعية دولهم، ووجب على السلطة حينئذ أن تردهم إلى وحدة الصف الوطنى الذى هو أول الفرائض وأوجب الواجبات.
ويترتب على ذلك تجريم أى مظهر للإكراه فى الدين، أو الاضطهاد أو التمييز بسببه، فلكل فرد فى المجتمع أن يعتنق من الأفكار ما يشاء، دون أن يمس حق المجتمع فى الحفاظ على العقائد السماوية، فللأديان الإلهية الثلاثة قداستها، وللأفراد حرية إقامة شعائرها دون عدوان على مشاعر بعضهم أو مساس بحرمتها قولا أو فعلا ودون إخلال بالنظام العام.
ويترتب على حـــق حرية الاعتقاد التسليم بمشروعية التعدد ورعاية حق الاختلاف، ووجوب مراعاة كل مواطن مشاعر الآخرين، والمساواة بينهم على أساس متين من المواطنة والشراكة وتكافؤ الفرص فى جميع الحقوق والواجبات.
يترتب أيضا على احترام حرية الاعتقاد رفض نزعات الإقصاء والتكفير، ورفض التوجهات التى تدين عقائد الآخرين ومحاولات التفتيش فى ضمائر المؤمنين بهذه العقائد بناء على ما استقر فقهيا ودستوريا وفى الأثر الشريف «هلا شققت عن قلبه».
حرية الرأى هى أم الحريات كلها، وتتجلى فى التعبير عن الرأى تعبيرا حرا بمختلف وسائل التعبير من كتابة وخطابة وإنتاج فنى وتواصل رقمى، وهى مظهر الحريات الاجتماعية التى تتجاوز الأفراد لتشمل غيرهم مثل تكوين الأحزاب ومنظمات المجتمع المدنى، كما تشمل حرية الصحافة والإعلام المسموع والمرئى والرقمى، مع وجوب احترام عقائد الأديان الإلهية الثلاثة وشعائرها لما فى ذلك من خطورة على النسيج الوطنى والأمن القومى. فليس من حق أحد أن يثير الفتن الطائفية أو النعرات المذهبية باسم حرية التعبير، وإن كان حق الاجتهاد بالرأى العلمى المقترن بالدليل، وفى الأوساط المتخصصة، والبعيد عن الإثارة مكفولا كما سبق القول فى حرية البحث العلمى.
يعد البحث العلمى الجاد فى العلوم الإنسانية والطبيعية والرياضيــة وغــيرها، قاطرة التقدم البشرى، ووسيلة اكتشاف سنن الكون ومعرفة قوانينه لتسخيرها لخير الإنسانية، عروبة القدس تضرب فى أعماق التاريخ لأكثر من ستين قرنا.. حيث بناها العرب اليبوسيون فى الألف الرابع قبل الميلاد..أى قبل عصر أبى الأنبياء إبراهيم ــ عليه السلام ــ بواحد وعشرين قرنا... وقبل ظهور اليهودية التى هى شريعة موسى ــ عليه السلام ــ بسبعة وعشرين قرنا.
شريعة موسى ــ عليه السلام ــ وتوراته، قد ظهرت بمصر، الناطقة باللغة الهيروغليفية، قبل دخول بنى إسرائيل غزاة إلى ارض كنعان، وقبل تبلور اللغة العبرية بأكثر من مائة عام. ومن ثم فلا علاقة لليهودية ولا العبرانية لا بالقدس ولا بفلسطين.
إن الوجود العبرانى فى مدينة القدس لم يتعد 415 عاما بعد ذلك، على عهد داود وسليمانــ عليهما السلامــ فى القرن العاشر قبل الميلاد.. وهو وجود طارئ وعابر، حدث بعد أن تأسست القدس العربية ومضى عليها ثلاثون قرنا من التاريخ.
تاريخ القدس شهد العديد من الغزوات والغزاة، فإن عبرة التاريخ تؤكد دائما أن كل الغزاة قد عملوا على احتكار هذه المدينة ونسبتها لأنفسهم دون الآخرين.. صنع ذلك البابليون، والإغريق، والرومان، وكذلك الصليبيون، ثم الصهاينة الذين يسيرون على طريق هؤلاء الغزاة، ويعملونــ الآنــ على تهويدها واحتكارها، والإجهاز على الوجود العربى فيها.
احتكار القدس وتهويدها ــ فى الهجمة المعاصرة ــ إنما يمثل خرقا للاتفاقيات والقوانين والأعراف الدولية التى تحرم وتجرم أى تغيير لطبيعة الأرض والسكان والهوية فى الأراضى المحتلة، ومن ثم فان تهويد القدس فاقد للشرعية القانونية، فضلا عن مصادمته لحقائق التاريخ التى تعلن عروبة القدس.
القدس ليست مجرد أرض محتلة، وإنما هى ــ قبل ذلك وبعده ــ حرم إسلامى ومسيحى مقدس.
وقضيتها ليست لتحريرها من الاغتصاب الصهيونى، ولكن لتأكيد قداستها، ويجب تشجيع ذلك عند كل أصحاب المقدسات كى يخلصوها من الاحتكار الإسرائيلى والتهويد الصهيونى.
أن الأزهر الشريف ــ ومن ورائه جميع المسلمين فى الشرق والغرب، إذ يرفض هذه المشروعات، يحذر الكيان الصهيونى والقوى التى تدعمه من التداعيات التى تهدد سلام المنطقة بل سلام العالم كله.
ينبه الأزهر بأن الصليبيين قد احتلوا مناطق أوسع مما تحتله الصهيونية.. ووقعت القدس فى الأسر الصليبى سنوات تزيد على ضعف السنوات التى وقعت فيها فى قبضة الصهيونية الباغية، ومع ذلك، مضت سنة التاريخ ــ التى لا تتخلف ــ إلى طى صفحة الاحتلال، وإزالة أثار عدوان المعتدين على الحقوق والمقدسات.
تحية للإمام الأكبر الزاهد المجدد، وتحية للأزهر وعلمائه المخلصين.