المَحكمَة
بسمة عبد العزيز
آخر تحديث:
الجمعة 14 فبراير 2025 - 7:40 م
بتوقيت القاهرة
تعرَّضت المَحكمَةُ الجنائية الدوليَّة إلى تهديداتٍ فعلية؛ قادها رئيسُ الولايات المتحدة الأمريكية، العائد إلى منصبه بثلة من التصورات الاستثنائية حول فترة حُكمِه الثانية، المُبشر بميلاد جديد؛ السيادة المرحلية فيه للقوة الفجَّة المُنفردة، بلا تجمُّل أو رتوش. فرضَ دونالد ترامب على المَحكمَة عقوباته بعد أن أصدرت مُذكِّرة اعتقال بحق مُجرمَيّ حرب السابع من أكتوبر: بنيامين نتنياهو ويوآف جالانت. راح المراقبون يتطلعون لنتائج القرار العبثي الذي يستهدف ترويض العالم وفقًا لرغبات الإدارة الأمريكية؛ بينما سَعَت بعضُ الدول إلى التكتل والعمل ضد المَسلَك غير المَسبوق.
• • •
المَحكمَة اسمُ مكان من الفعل حَكَم، الفاعل حَاكِم والمفعول به مَحكوم؛ لكن العادة جرت على أن نعطي الجالس خلف مَنصَّته في القاعة المُهيبة لقبَ "القاضي" لا الحَاكِم؛ والمفردتان في نهاية الأمر سواء؛ إذ يُفترَض أن يتحرَّى كلاهما الحقَّ والعَدل، وأن يتبَع القوانينَ ويستلهمَ روحَها، وأن تكون كلمته بالتالي مُنزهةً عن كلِّ عوار.
• • •
بين الحين والآخر ينصبُ الناسُ مَحكمَةً أخلاقية لبعضهم البعض، وينحون من خلالها إلى إصدار أحكام قاطعة. يستندون تارة إلى وقائع دامغة؛ لا لبس فيها ولا تأويل، وتارة يقصرون معلوماتهم على القيل والقال، ويأخذون بحكايات مُرسَلة تفتقر إلى السَّند والدليل. المُحاكمات الأخلاقية غائمة في أحوال عديدة، والحدُّ الفاصل ما بين تبرئة وإدانة هو حدٌّ نسبيٌّ؛ يعتمد على معايير شخصيَّة وسياقات مُتباينة؛ لذا يكون التريُّث والحلم إزاء المتَّهَمين خيرًا وأسلم.
• • •
لمَحكَمة العدل الدولية تاريخٌ طويل. تأسَّست عام ألف وتسعمائة وخمسة وأربعين؛ ليَنظُر في المَوضُوعات المُوكلة إليها عددٌ من القضاة ينتمون لبلدان مختلفة؛ ويُحظَر أن يكون في هيئتها عضوان من الجنسية ذاتها، وهي الوحيدة من بين الأجهزة الستة التابعة للأمم المتحدة التي لا تتخذ من نيويورك مقرًا لها؛ إنما تقع في لاهاي بهولندا، ويُذكر أن الولاياتُ المتحدة أبت أن تعترفَ بصلاحيات المَحكمَة الكاملة، وقرَّرت أن تأخذَ منها ما يُعجبها وأن تضربَ بما يُضايقها عرضَ الحائط.
• • •
ما يحكمش؛ تعبير شعبيٌّ أصيل له من الدلالات ما يملأ صفحاتٍ طوال. فيه إيجاز مُبهِر، ومَجاز يُحرض السامعَ على بناءِ تصوُّراتٍ فريدة حول المَوقف القائم؛ خاصة إن رافقته لغةُ جَسد واضحة ونبرةُ صَوت مُلائمة وإيماءاتٌ عاكسةٌ للمشاعر المُصاحبة. القائل في أغلب الأحيان امرأة في بيئة داعمة مُواتية، والمناسبة عامرةٌ بالسجالٌ والتحدّي، أما القَّصد؛ فاستنكار ورفضٌ ملونان بفائض من الاستهزاء: ما يحكمش علينا نكلمك، نقعد معك، نقبل عرضك، نسألك خدمةً أو نحتاجك، وربما جوانب أخرى لا يتَّسع المجالُ لتفصيلها.
• • •
يُقدم فيلم "الحُكم آخر الجَّلسة" الذي عُرِضَ في الثمانينيات، صراعًا معلنًا ما بين الخَوف من مرضٍ وراثيّ؛ يُرجّح التخلُّص من جنين قد يحمله، وبين رغبة الاحتفاظ بالحَمل؛ لعلَّ الوليد ينجو ويمضي سليمًا مُعافى. القرار مُعقَّد عسير والعاقبةُ وَخيمة، والحال أن قوانينَ بعض البلدان قد تركت الأمرَ لاختيار الأبوين، وحسَمته أخرى لصالح بقاء الطفل، بينما وضعت ثالثةٌ شروطًا وضوابطَ حاكمة؛ لكن أيَّها لم يكن مُرضيًا للجميع.
• • •
تمضي بعضُ الدُّول صَغيرة الحَجم والمكانة، طفيفة التأثير؛ في ركابِ أخرى ثقيلة الوزن، عنيفة القبضة. تأتمر بكلمتها وتؤيد أفعالَها وتتبع خطواتِها ولو بدت منحرفةً عن السبيل، ويُقال حينها: حكم القوي على الضَّعيف. يأتي القول في العادة بصيغة الاعتذار، وهو مرادف للتعبير الذائع: ما باليدّ حيلة، وكلاهما من دفاعاتِ المَغلوب على أمره، الخاضع دومًا لقاهره، الواجد في هوانه مُبررًا وشفاعة.
• • •
أرسى محمد حاكم فنان الكاريكاتير مدرسةً مُتفردة في السُّخرية القاتمة ذات الرؤية الثاقبة العميقة؛ أهدته لقبَ فيلسوف الضَّحك. حاكم سودانيّ الأصل انحدرت عائلته من الشمال، وقد سارَ على دربِ شقيقِه الأكبر التشكيليّ حَسَن، وبرحيله فقدت المطبوعاتُ المصريَّة ريشةً لاذعةً شديدةَ الخصوصية.
• • •
كان عزلُ رئيس كوريا الجنوبية وإلقاءُ القبض عليه والزَّج به في محاكمة سريعة؛ ليحدث دويًا هائلًا، لو لم تشتعل الأجواء السياسية بوقائع مزلزلة ومتوازية في كلِّ مكان آخر. تجرأ الرئيسُ على فرض قيود تمسُّ حريَّات الشعب؛ فلقي جزاءً صارمًا، واللافت هو التغريد الجمعيّ خارج السرب؛ فالعالم يمضي أغلبه نحو أشكال من القمع والترويع، بينما تظهر كوريا مُغالية في حماية مُكتسباتها الديمقراطية، لا تتراخى في الدفاع عنها ولا تهذر؛ وإذ لوَّح الرئيس بإعلان الأحكام العرفيَّة دون دوافع حقيقية؛ جاءه الردُّ فوريًا قاصمًا.
• • •
يأسى الواحد لما أصاب جسدَه من وَهن وما تبدَّل في مقدار مُرونته وما أبطأ حركته؛ يدرك أنه قد تقدَّم في العمر، وأن ما صلحَ أيام الطفولة والشباب قد توَلَّى وانتفى. يقول راثيًا حاله: السِنُّ له أحكام، ويشاركه آخرون مؤكدين كلماته: حُكم الزَّمن. الحكمُ هنا مُرتبط إلى حدٍّ بعيد بالفعل؛ فإن حافظ المرءُ على صحَّته واتبع ما يحفظ لياقته؛ شاخَ على ما يُحبّ، وإن أهمَل وأسرَف؛ نال ما يكافئ عمله.