الحياة عند مفترق طرق


رضوى أسامة

آخر تحديث: الثلاثاء 14 أبريل 2009 - 6:40 م بتوقيت القاهرة

 تأتى إلى بخجل مضاعف، بصراحة شديدة تخبرنى عن طبيعة عملها، عاملة بالجنس التجارى، لم تختر هذا الوصف لشرح طبيعة عملها، اختارت وصفا شعبيا بسيطا، صمت لفترة، أخرجنى من صمتى حدة عينيها، وكلماتها البسيطة الواضحة: «عايزة أتغير، خلاص قرفت من نفسى».

بعد فترة من الأسئلة تخبرنى بأنها تحاول التغيير وأنها لم تمارس الجنس لبضعة أشهر، تخبرنى أيضا بأنها على استعداد لفعل أى شىء لتستعيد نفسها.

ظللت أفكر لأيام ما الذى يدفع إنسانا لتغيير نفسه؟ من خلال عملى فى مجال الإدمان، أجد اختلافا بين دوافع قرار الأهل فى علاج الابن المدمن وتغيره، ودوافع هذا الابن. فهو لا يأتى عادة لطلب المساعدة إلا بعد أن يشعر بأنه وصل لـ«القاع».

كلمة «القاع» يعرفها المدمنون جيدا وتعنى الحالة غير المحتملة والمهينة. وهى تختلف من شخص لآخر، أحد المدمنين قرر الإقلاع عندما تم ضربه وإهانته فى قسم الشرطة، بينما قرر آخر عندما وصل به الحال للاقتراض من البواب لشراء مخدرات.

يعنى ذلك أن الإنسان يشعر بأهمية التغيير عندما يفقد القدرة على الاحتمال، ربما يجعلنا ذلك نتوقع دائما إصراره ثم نجاحه فى التغيير، ولكن هذا غير صحيح بالمرة. رغم رغبتهم الشديدة فى التغيير يعانى المدمنون الراغبون فى التعافى من الانتكاسات المتكررة. وهو أيضا ما يحدث معنا جميعا عندما نقرر تغيير بعض السلوكيات لدينا ونجدنا سرعان ما عدنا إلى حالتنا الأولى. إذن الرغبة فى التغيير ليست شرطا كافيا لنجاحه، تبقى عوامل أخرى تقف وراء نجاح هذه العملية.

أولى هذه العوامل أن تبتعد عن الأماكن والأشخاص الذين يثيرون لديك الرغبة فى ممارسة سلوكك الأول، فى حالة البنت التى كنت أحكى عنها، امتنعت عن الذهاب لأماكن كثيرة كانت تفعل فيها ذلك، وابتعدت عن أشخاص كثيرين فى حياتها كانوا يدعمونها فى هذا الجانب، كذلك مدمن المخدرات عليه أن يبتعد عن أصدقائه القدامى من المدمنين ويبتعد عن أماكن توزيع المخدر، عليه أن يتجنب ما تسميه لغة المدمنين «الشعوذة» أى الأشياء والحالات التى تشعرهم بالاشتياق للسلوك القديم.

وعلى الرغم من ذلك فإن ابتعادك عن الأماكن والأشخاص المرتبطين بالسلوك القديم لن يوفر جوا كاملا للتغيير، فتخيل أنك تخضع لريجيم وامتنعت عن أكل الحلوى، وابتعدت عن الأماكن والأشخاص الذين يشجعونك على الأكل بشراهه، فهل يضمن ذلك لك أنك لن تشعر بالاشتياق لقطعة جاتوه مثلا؟

ولكن لو ذكرت نفسك بأنك تقلع عن سلوكك القديم لليوم فقط، يمكن أن تكمله بنجاح بينما يمكن أن تحبطك فكرة الإقلاع النهائى وللأبد لأنها ستبدو صعبة. مدمنون كثيرون بتذكرهم لمبدأ «لليوم فقط» قالوا لأنفسهم «لا بأس سنكمل يومنا على خير».

وهذ ما فعلته البنت التى جاءت للتغيير وفعلته بفطرة شديدة دون أن تفهم أن هذا مبدأ علمى، فتحدثت عن أنها كانت تضحك على نفسها وتقول إنها لن تذهب لملاقاة أحد هذا اليوم ويمكنها أن تؤجل ذلك للغد، وبهذا استطاعت أن تكمل شهورا بهذا الشكل.

يصلح مبدأ «لليوم فقط» مع العديد من السلوكيات القهرية والإدمانية التى نحاول التخلص منها. ويبقى العامل الثالث وهو مشاركة أشخاص يخوضون نفس التجربة أو سبقونا فيها لنتلقى منهم الدعم الكافى والمساندة فى تجربتنا، وهذا ما نفعله بشكل تلقائى عند الإصابة بمرض، يطمئننا بشدة أن يحكى لنا مريض سابق خاض نفس تجربتنا فى المرض ونصدقه ربما أكثر من الطبيب المعالج.

التغيير، من أصحاب الخبرات، صعب على النفس البشرية التى تهوى الشهوات وتخضع لها، أن تهذب ذاتك وتخضع أفكارك وسلوكك للتغيير أمر صعب بشهادة الكثيرين ممن مروا بهذه التجربة، لكنهم جميعا اتفقوا فى النهاية بأن اللذة التى تشعر بها بعد التغيير تستحق هذا العناء وأكثر. ربما لم نختر الطريق الذى ذهبنا إليه من قبل ولم نكن مسئولين عنه، لكننا حتما مسئولون عن الطريق الذى سنسلكه الآن.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved