وزارة السعادة المصرية: سياسات عصرية دون أعباء مالية

أحمد شكري رشاد
أحمد شكري رشاد

آخر تحديث: الأربعاء 14 أبريل 2021 - 7:05 م بتوقيت القاهرة

وصلت البطاطس إلى أوروبا من أمريكا الجنوبية فى القرن السادس عشر، لكن رفضها الأوروبيون، وبسبب خطر الاعتماد الزائد على القمح والمجاعات، حاول فريدريش الثانى (1712 ــ 1786) ملك ألمانيا إقناع الشعب بأكلها، كهدف استراتيجى لتعزيز الامن الغذائى، وتخفيض أسعار القمح.
أمر فريدريش الفلاحين بزارعة البطاطس فى ألمانيا، وهدد بالعقوبة البدنية الشديدة فى حالة عدم الاستجابة، لكن استمر الرفض الشعبى لها، ففكر فريدريش فى حيلة لتحقيق الهدف، حيث أمر الملك بزراعة البطاطس فى قصره على أن تكون ظاهرة للناس، ويحرسها حراس متراخون، ما أوحى للعامة بإعجاب الملك بالبطاطس، ودفع البعض لسرقة البطاطس (طعام الملك) وزراعتها فى أراضيهم، وبذلك انتشرت وأصبحت من المأكولات الرئيسية.
نستخلص من ذلك أنه يمكن أن تلعب الوسائل الناعمة وفن الإقناع والعوامل النفسية، دورا كبيرا فى تعديل سلوكيات البشر عندما لا تنجح القوانين والعقوبات فى ذلك، طالما انتبهت الحكومات لدور العوامل النفسية فى حث البشر على تعديل السلوكيات الخاطئة.
لكن مع التقدم فى علم الاقتصاد السلوكى وحصول رواده على جوائز نوبل فى الاقتصاد، قررت حكومة ديفيد كاميرون فى بريطانيا، تأسيس أول وحدة عمل متخصصة فى الاقتصاد السلوكى تابعة لمجلس الوزراء تكون مهمتها الاساسية تطوير السياسات الحكومية وزيادة فعاليتها باستخدام بحوث العلوم السلوكية.
كان من أبرز نتائج الاقتصاد السلوكى هو إصلاح نظام التقاعد فى بريطانيا عن طريق تغيير القواعد الانضمام إلى النظام، فبدلا من أن يتقدم الموظف بطلب الانضمام إلى النظام، وإذا كانت لديه رغبة فى الانضمام، تغيرت القواعد ليكون أصحاب العمل ملزمون بإلحاق الموظفين تلقائيا إلى نظام تقاعد، ولكن للموظفين الحق فى الانسحاب من النظام إذا رغبوا فى ذلك، وبالتالى حق الاختبار موجودا فى حالتين ولكن فى حالة الانضمام التلقائى كان عدد المشتركين فى النظام اعلى.
تجربة أخرى فى مجال الضرائب كانت لرفع معدلات سداد الضرائب عن طريق تغيير صياغة الرسائل إلى دافعى الضرائب بالاستناد إلى الاقتصاد السلوكى، حيث إن إضافة جملة واحدة مثل «معظم الناس يدفعون ضرائبهم فى الوقت المحدد» تحسن من معدلات السداد بملايين الجنيهات.
تجربة مختلفة أيضا من إدارة المرور، أظهرت النتائج بأن إضافة صورة قائد السيارة التى التقطت بكاميرات الطرق إلى اشعار المخالفة يزيد بشكل كبير من احتمالية قيام قائد السيارة بدفع المخالفة فى الوقت المحدد مقارنة بإشعار المخالفة بدون إضافة صورة مالك السيارة، والنتيجة كانت بعد سنتين من العمل تحقيق وفر بقيمة 300 مليون جنيه إسترلينى على الخزانة العامة الإنجليزية.
وأظهرت تلك التجربة فى بريطانيا كيف يمكن لبعض التغيرات البسيطة فى السياسات العامة بالاستناد إلى العوامل النفسية أن تؤدى إلى تحولات كبيرة فى النتائج من توفير فى استهلاك الموارد والتزام أكبر بالقوانين.
السؤال هنا: هل من الممكن ان تستفيد الحكومة المصرية من تلك النوعية من السياسات؟ لنأخذ بعض المشاكل؛ مثل الزيادة السكانية، وهى مشكلة رئيسية عبر العصور، فرغم الجهود والتوعية، لم تنجح الدولة والحكومات المتعاقبة فى خفض معدلات الانجاب فى آخر 20 سنة. وظل متوسط معدل الانجاب للسيدة المصرية يزيد عن 3 أطفال فى آخر 20 سنة. فى أكتوبر 2020، قدرت الحكومة ان كل مولود جديد يكلف الدولة ما يزيد عن 13 ألف جنيه سنويا. وما زالت الحلول المطروحة فى الاعلام تدور حول حرمان الاسرة من بطاقة التموين إذا ارتفع عدد افراد الاسرة.
ولكن ماذا لو قلبنا السياسة الحكومية رأسا على عقب من العقاب إلى الثواب أو من الحرمان إلى المكافأة؟ على سبيل المثال، فإذا كان كل طفل يكلف الدولة 13 ألف جنيه، لماذا لا نفكر فى ان نمنح المتزوجين الجدد أو الاسرة الصغيرة الملتزمة ببرنامج تنظيم الاسرة مكافأة مالية أو منحة نسميها منحة السعادة كحافز للالتزام أكثر بتنظيم الأسرة؟ أليس ذلك أفضل أو أكثر فعالية فى خفض معدلات الإنجاب وقد يحقق وفرا على الخزانة العامة.
سياسة أخرى للتفكير، لماذا لا تقوم وزارة الصحة بتسجيل الامهات بعد ولادة الطفل الثانى مباشرة على نظام تنظيم الاسرة وبشكل تلقائى إلكترونى؟.. ثم تنظم زيارات دورية لها بدلا من الانتظار لقدومها إلى مكتب الصحة.
ماذا عن ترشيد استهلاك الماء أو الكهرباء؟ مصر من الدول الفقيرة مائيا وتعتمد على نظام التعريفة التصاعدية حسب شرائح الاستهلاك. ولكن إذا أضفنا سطرا واحدا (لن يكلف شيئا) على فاتورة الماء أو الكهرباء يوضح مستوى استهلاك المياه أو الكهرباء لكل منزل بالمقارنة مع بقية المنازل فى الحى الذى يقطنه سوف يساعد على ترشيد الاستهلاك. على سبيل المثال، إذا أضفنا المعلومة التالية بالنسبة لأصحاب الاستهلاك المرتفع، «انت من ضمن أعلى المستهلكين للمياه فى المنطقة، حاول ان ترشد استهلاكك» مع ارفاق نصائح حول كيفية ترشيد الاستهلاك. مثل هذه عبارات لها واقع نفسى على الناس والتجارب اثبت انها لها فاعلية على الاستهلاك. تلك التغيرات التى تبدو بسيطة يمكن ان تحدث فرقا كبيرا. هذا ما أثبته العلم!
مثال آخر، مصر من اعلى الدول فى معدلات حوادث الطرق. النظام المتبع هو المخالفة بالغرامات فى حالة عدم الالتزام بالقانون رغم ذلك تظل معدلات الحوادث مرتفعة. ماذا لو كافأنا السائقين الملتزمين بمكافأة معنوية لا تكلف شيئا يذكر. على سبيل المثال، رسالة أو خطاب للملتزمين تفيد بأن الدولة تشكرك وتحييك على التزامك بالقانون خلال العام وتدعوك للاستمرار فى التزام. هذا النوع من سياسات له واقع نفسى إيجابى على الناس ويزيد من سعادتهم ويحفز المجتمع على التزام أكثر بالقوانين. وسوف ينشرها الناس بينهم ويراها الجميع.
من الممكن ان نفكر فى وزارة للسعادة فى مصر تستفيد من علم الاقتصاد السلوكى وتنفذ سياسات من خارج الصندوق تسعد الناس دون أعباء مالية. وهذه مجرد أفكار واقتراحات للنقاش يأخذ منها ما يفيد.
أستاذ الاقتصاد والسياسات العامة المساعد وزميل بحوث بمنتدى البحوث الاقتصادية
Twitter: @ahmshoukry

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved