القاهرة: مدينتى وثورتنا (١٦)
أهداف سويف
آخر تحديث:
الخميس 14 مايو 2015 - 9:55 ص
بتوقيت القاهرة
الموجة الأولى
انقطاع مؤقت (أكتوبر ٢٠١١)
أكتوبر ٢٠١١ مرة أخرى
لأسابيع فى أغسطس تحتل قوات الأمن المركزى الصينية فى الميدان. وفى سبتمبر اكتشفنا أن النظام كان ينتوى بيع التحرير. فعلا: كانوا يخططون لأن يبيعوا الميدان العام المركزى الأكبر فى عاصمتنا لشركة فنادق اجنبية لأن «حكومة حسنى مبارك كانت قلقة من التجمعات والتظاهرات.. فى وسط القاهرة ».
لم أفاجأ، لأننا كنا نعلم أن مصر كلها معروضة للبيع: الأرض والآثار والجزر والبحيرات والشواطئ وبيوت الناس وضفاف النيل والموارد الطبيعية والبشر والسيادة والمحميات والأعضاء البشرية ومناجم الذهب والثروات فى باطن الأرض والمياi فى النهر وعرق البنى آدمين ــ كل شىء. ومع ذلك فى كل مرة نكتشف فيها صفقة معينة، استهدافا معينا، يتملكنا مرة أخرى ذلك الرعب المندهش: كانوا سيبيعون ماذا؟ لا ينفعنا وقتها أننا نعلم أنهم أوضع من الوضاعة وأخون من الخيانة، يرتطم القلب وتتقلص الأمعاء وينقبض النفس وتتثلج الأطراف: كانوا سيبيعون التحرير؟
كانوا ليفعلوا أى شىء. العقل لا يستوعب هذا ولكن، نعم، كانوا ليفعلوا أى شىء. وهل هناك أسوأ من إشعال الفتنة؟ من شحن واستعداء أهل الوطن الواحد بعضهم على بعض؟ هل هناك ما هو أحط وأكثر إجراما من هذا؟ هذا ما فعله النظام لأكثر من ثلاثين عاما، وهذا ما نراه مرة أخرى فيما حدث فى ماسبيرو.
لو كنتُ فى القاهرة لكنت فى تلك المسيرة فى التاسع من أكتوبر، حين سار آلاف المسيحيين المصريين وأصدقاؤهم المسلمون المتضامنون ليطالبوا بسرعة إصدار قانون دور العبادة الموحد الذى طال انتطاره. لكنى كنت فى الخارج، وجلست أرقب المسيرة على شاشة الكمبيوتر: تنطلق من شبرا، الناس فى آلافهم يسيرون، يهتفون، كبارا وصغارا، عائلات وشبابا، يتحادثون وحتى يضحكون. يرتفع التوتر والمسيرة تقترب من مبنى الإذاعة والتليفزيون ــ ثم يزلزلنى ذلك الانفجار الهائل من الحركة والصوت والطاقة: ضرب النار، المدرعات تنحرف مرات ومرات وسط الناس، تضربهم، تدهسهم، تسحلهم وراءها. أسمع المذيعة بقناة ٢٥ تصرخ والقناة تهاجَم وأسمع مذيعة التليفزيون المصرى تحرض المشاهدين المسلمين ببلاغات عن جنود قُتِلوا وأقباط «بيهاجموا الجيش المصرى». يُستشهد فى تلك الليلة واحد وعشرون من الشباب، ثم يرتفع العدد إلى ثمانية وعشرين. ويصاب ألف وأربعمائة.
أجلس متسمرة إلى ترابيزة المطبخ أتابع تغريدات علاء يرسلها من مشرحة المستشفى القبطى تقطر بالألم: «جثمان مينا هنا مينا رفيقى أنا مش مصدق»، «فقدناك وأنت تحارب من أجل بلادنا لتسلم روحك يا مينا دانيل يا صديقى»، «انا دخلت وشفتهم سبعتاشر جثمان طاهر ومينا منور وسطهم إزاى حنسامح نفسنا؟» لكن ما قام به الشباب بعد ذلك كان عملا جبارا: من مشرحة المستشفى القبطى دخلوا فى مواجهة مع النظام؛ وقفوا فى وجه إدارة المستشفى التى بدأت فى إصدار شهادات وفاة «لأسباب طبيعية»، وفى وجه القساوسة الذين كانوا يضغطون بوجوب سرعة الصلاة والدفن. أقنعوا الأسر الملتاعة بأن يطالبوا بتشريح جثامين أبنائهم. النشطاء الحقوقيون ضغطوا على النائب العام للأمر بالتشريح. جاءوا بفريق أطباء الطب الشرعى وأقنعوهم بالتشريح فى حضرة الدكتورة منى مينا والأطباء الذين يثق فيهم أهالى الشهداء، ثم أجلسوا الطب الشرعى مع أسر الشهداء فردا فردا ليقرأوا لهم التقارير ويشرحوها لهم. مشرحة المستشفى القبطى بها أربعة أدراج فقط؛ ولمدة يومين عالج الشباب جثامين أصدقائهم بالمراوح وألواح الثلج، وعالجوا غضب ولوعة وشكوك أهاليهم بالدموع والأحضان والألم المشترك.
وحين عدت إلى القاهرة ذهبت لزيارة الجرحى فى المستشفى القبطى وحكوا لى مرة أخرى عن علاء وأصدقائه، رفاق مينا المسلمون، الذين تصدوا لمحاولات دفن الشهداء المسيحيين على عجالة وطمس ظروف استشهادهم.
والآن علاء مستدعى من النائب العسكرى ليواجه اتهمات بالتحريض والتدمير.
أسمع عمر يتحدث على الهاتف فى الطرف البعيد من البيت، من تلك الشرفة حيث كانت مربيتى، التى لم تكن تقرأ ولا تكتب، تحكى لى القصص فتعطينى دروسا فى السرد. عمر ومنى يعملان معا لتجميع كل المعلومات المتاحة عن مذبحة ماسبيرو على موقع «لا للمحاكمات العسكرية للمدنيين». بدأت منى هذه الحملة فى فبراير وقت اعتقال عمرو البحيرى، وانضم إليها الكثير من الشباب، والآن أراها هى وعمر منكبين على خطط الحملة مثلما كانا ينكبان معا على خطط المصيف العائلى.
كانت منى دائما «البنت الكويسة»؛ البنت التى تجهز السفرة وتساعد الأطفال الأصغر. منذ عام الآن ونحن نرقب تطورها كعالمة باحثة شابة تعنى بالجينات التى تربيها فى المعمل والتى عليها أن تتمم عليها كل ثلاث ساعات. جادة فى البالطو الأبيض والنظارة، شعرها ملموم بعيدا عن وجهها، القرط فى أذنها بندول ساعة رقيق. ثم رأيناها فى الثورة وروحها المرحة تكتسب جدية مؤثرة، والآن تحدق فى اللاب توب وترد على الهاتف والحملة التى تعمل عليها اليوم هى لمساندة أخيها حين يعود من سان فرانسيسكو. أبناؤنا.
لمدة عشرين عاما كان رتم حياتنا العام الدراسى فى انجلترا والأجازات فى مصر. كنا نعود فيعود الأولاد كلهم إلى مواقعهم وكأنهم لم يفترقوا ابدا. كانوا معا فى العتبة وفى الزمالك وفى بيت أخى وأمى وفى حديقة الهرم وفى بيت الساحل. وكان أول سؤال يسأله أى من الكبار حين يصل إلى أى من البيوت هو «فين الشباب؟» طوفى تطبخ لهم أكلاتهم المحببة وتطرز الحروف الأولى من أسمائهم على قمصان المدرسة، أمى تمدهم بالكتب وتستمع إليهم وتناقشهم، لولى تعالج أمراضهم وتطبب إصاباتهم، ليلى تقدم العون فى العلوم والحساب، وسهير تصون أسرارهم وتواسى قلوبهم. أما أخى وأحمد سيف فكانا النقاط المرجعية الثابتة، يضفى حضورهما نكهة وبهجة خاصة على أى تجمع. والآن الشباب كلهم يعملون للثورة، والليلة منى وعمر يجهزان الحملة لعلاء، والجريدة أمامهم على مائدة البلكونة تحمل مانشيت من رئيس النيابة العسكرية: «المطالبة بعدم محاكمة المدنيين فى المحاكم العسكرية (مطالبة) غير شرعية».
ما هو الشرعى وما هو غير الشرعى؟ المجلس الأعلى للقوات المسلحة يخترع قوانين جديدة كل يوم، يقولون إن القانون يضمن حق الاحتجاج والتظاهر لكنهم يضربون المتظاهرين أمام السفارة الصهيونية ويقدمونهم للمحاكمات العسكرية، وكل حادثة من الحوادث التى علمنا بها فى الثمانية أشهر الماضية سجلت انهيارا جديدا فى العلاقة بين الشعب والجيش.
*****
السؤال الذى يشغلنا الآن، فى أكتوبر ٢٠١١ ــ سؤال أنت يا قارئى تعرف إجابته التى لا أعرفها انا ــ هو هل ستتم الانتخابات البرلمانية المجدولة لـ٢٨ نوفمبر؟ كثيرون منا يعتقدون أن أحداث ماسبيرو كان الغرض منها خلق فتنة تمكن المجلس العسكرى من إعلان حظر التجول وتأجيل الانتخابات. لم تنجح لأن المواطنين المسلمين لم يستجيبوا لتحريض الإعلام الرسمى. هل سينجحون فى المرة القادمة؟ متى ستكون المرة القادمة؟
«ليس هناك شخص ــ شخص واحد، شخص واحد منا ــ سوف يقبل بالعودة إلى الكابوس الذى صحونا منه»، هذا ما كتبته من ثمانية أشهر. لكن الكابوس يطاردنا، يفاجئنا، يهاجمنا. حتى الآن تمكننا من الصمود أمامه وصده.
وقد بدأ يسرى عندنا اعتقاد أنه ربما حتى الانتخابات لن توصلنا إلى حيث نريد أن نذهب.
نعلم أننا لسنا وحدنا، أننا لم نكن أبدا وحدنا: الرسائل والدعاء والمشاعر التى جاءت تنهمر على مصر من كل مكان فى العالم أثناء تلك الأيام الثمانية عشر استقرت فى عقولنا ووجداننا، تؤكد لنا فى كل دقيقة أن الحرية التى خرجنا من أجلها هى الحرية التى يريدها شعوب العالم لنا ولأنفسهم، وما يحدث فى بلاد العالم كلها منذ تلك الثمانية عشر يوما يعيد هذا التأكيد. اللافتات الأولى التى رُفِعَت فى وِسكُنسِن، أسماء الشوارع التى رفعت فى الحى المالى فى لندن، الكلمات التى تصلنا من العالم من طوكيو إلى وول ستريت، الهتافات فى أوكلاند كاليفورنيا ــ كلها تردد النداء من التحرير ومن تونس: شعوب العالم تريد إسقاط النظام.