بدأت الرحلة العقلية في الإسكندرية وانتهت في الإسكندرية وتركت آثارها في ربوع مصر كلها. نشأ بين الكتب وعاش من أجل الكتب ونشر العلم، وكما كانت الإسكندرية منارة العلم بمكتبتها العالمية في عصرها الذهبي وُلِد عالمنا أيضا في 10 أكتوبر عام 1928 في القاهرة ولكنه نشأ الإسكندرية في بيت يقدس العلم والكتب فوالده الدكتور عبد الحميد العبادي هو عميد كلية الأداب الأسبق بجامعة الأسكندرية من 1942-1952 وهو عالم جليل وتوجد بإسمه (جائزة الأستاذ عبد الحميد العبّادي في التاريخ الإسلامي) والتي تُمنح كل عام لأحسن طالب في فروع التاريخ الإسلامي بجامعات عين شمس والقاهرة والإسكندرية.
تخرج الطالب مصطفى العبادي في كلية الآداب جامعة الإسكندرية عام 1951 وفي العام 1960 حصل على الدكتوراه من جامعة كامبريدج في الحضارة اليونانية والرومانية وهنا سببان لاختيار الدكتور مصطفى لهذا التخصص: السبب الأول أن هذه الحضارة تغطي فترة كبيرة جداً في تاريخ مصر تقرب من ألف عام والسبب الثاني هو قلة المتخصصين في مصر في دراسة هذه الفترة الهامة في تاريخ مصر خاصة من المتمكنين من اللغتين اليونانية واللاتينية. وكما ترى: السببان بهما كلمة "مصر"!... وهنا يتصل التاريخ بالمكان (المكان: الإسكندرية.. التاريخ: الحضارة اليونانية والبطالمة) وينبت الحلم في عقل وقلب الدكتور مصطفى العبادي: إعادة تأسيس مكتبة الإسكندرية.. ولكن دعنا لا نستبق الأحداث.
عاد الدكتور العبادي إلي مصر وتدرج في سلك التدريس حتى حصل على الأستاذية وتدرج في سلك الإدارة حتى رأس القسم عام 1972 ثم أصبح وكيلاً للكلية لشئون الطلاب من سنة 1976 حتى 1979 وتدرج حلم مكتبة الأسكندرية في وجدانه، كان حلم الدكتور العبادي أن ينشئ في الإسكندرية مركزاً بحثياً عالمياً يأتيه الباحثون من كل أنحاء العالم ومن مصر لعمل أبحاثهم بدلاً من سفرهم إلى أمريكا أو أوروبا، بدأ الدكتور العبادي إعطاء محاضرات والمناداة بإعادة إحياء مكتبة الإسكندرية كمركز بحثي عالمي يشبه ما رأه في كامبريدج.
كانت شرارة البداية كلمة ألقاها الدكتور العبادي في نادي أعضاء هيئة تدريس جامعة الإسكندرية سنة 72 طالب فيها بإنشاء المكتبة ... فقط في سنة 1986 بدأ التمويل يأتي من اليونسكو ومن الدولة بعد جهد دؤوب من لجنة ثلاثية شكلتها جامعة الإسكندرية مكونة من الدكتور مصطفى العبادي والدكتور لطفي دويدار والدكتور محسن زهران ومساعدة من الدكتور مصطفى كمال حلمي (وزير التعليم آنذاك) لدفع الدولة لمراسلة اليونسكو ... كان المشروع كبيراً والتمويل وإن كان يبدوا كبيراً لكنه لا يستطيع أن يجمع كل المعارف الإنسانية (مثل مكتبة الإسكندرية القديمة) لأن الكتب ليست رخيصة. استغرق العمل في المشروع 16 سنة كاملة لأنه واجه العديد من المشاكل ولكن العناية الإلهية ساعدته ويستشهد الدكتور العبادي في ذلك بواقعة إفتتاح جامعة الإسكندرية سنة 1942 حيث ألقى الدكتور طه حسين كلمة قال فيها: "..وقديما يا مولاى قال هيرودوت مصر بلد العجايب، وها نحن أولاء فى خضم حرب عالمية وقوات الحرب على مرمى منا، تتصارع عند العلمين ونحن نؤسس جامعة من أجل المعرفة والمستقبل والسلام". قصة إنشاء المكتبة معقدة وطويلة ولن نستفيض فيها هنا. عند افتتاح مكتبة الإسكندرية سنة 2002 لم يكن الدكتور مصطفى العبادي ضمن المدعويين!! للأسف!
على المستوى العقلي كان الدكتور مصطفى العبادي مكتبة متنقلة فمعلوماته عميقة ومتشعبة جداً ... مثل الكتب التي تملأ بيته المطل على بحر الإسكندرية، إذا تكلمت معه في التاريخ مثلاً تجد المعلومات حاضرة كأنك تتحدث مع مكتبة علمية كاملة ... ولا تتصور أنه مجرد بنك معلومات بل عنده قدرة على تربيط النقاط ببعضها ببراعة فائقة.
حصل الدكتور مصطفى العبادي على الكثير من الجوائز فعلى سبيل المثال لا الحصر جائزة النيل وجائزة الدولة التقديرية والدكتوراة الفخرية من جامعة كيبك ـ مونتريال بكندا ... ولكن علمه هو الجائزة التي أعطاها هو للعالم... بخلاف الكثير من الأبحاث والكتب لا يجب أن نغفل أنه ألف كتاباً في تاريخ مكتبة الاسكندرية ترجم إلي ست لغات وقد أثبت الدكتورأن مكتبة الاسكندرية لم يكن لها وجود عند الفتح الإسلامى مما يدحض القول بأن العرب حرقوا المكتبة.
رحم الله الدكتور مصطفى العبادي الذي رحل عن دنيانا في 13 فبراير 2017 وهو مازال يحلم بسطوع العلم على مدينة الإسكندرية. ويجب أن نتذكر دائما كلمته: "ما أتمناه لمكتبة الإسكندرية أن تصبح مركزا للبحث العلمى على المستوى العالمي، وهذا امر ليس سهلا ويحتاج إلى أموال طائلة، ولكن لو استطعنا عمل ذلك فيمكن أن تشهد مصر تحولا علميا كبيرا فى السنوات القادمة".