يا شهر الخير
تمارا الرفاعي
آخر تحديث:
الأربعاء 14 يونيو 2017 - 8:40 م
بتوقيت القاهرة
فى المطبخ طاقة عالية، حركة كثيرة، روائح القرفة وشوربة الدجاج تتكثف على سقف الغرفة. الملاعق الخشبية التى تستخدم أثناء الطبخ تدور فى الأوعية على النار، حركة وصوت السكين وهى تفرم الخضار تذكر بمشاهد برامج الطبخ فى التلفزيون.
إنها الدقائق الأخيرة قبل الإفطار، تلك التى يستنفر فيها أهل البيت، ويعلو التوتر عند من فى المطبخ قلقا منهم ألا تكون المائدة جاهزة عند الأذان. «ضرب المدفع؟» يسأل أحدهم، «لسه شوى كمان»، يجيبه آخر.
•••
لا أذكر وجبة إفطار فى بيتنا أو فى أى بيت آخر إلا وأتذكر معها توتر الدقائق الأخيرة قبل الجلوس إلى المائدة. هو توتر من نوع آخر، توتر العدَّاء الذى يكاد يصل إلى خط نهاية السباق، يرى الخط، إنما تبطئ الحركة كما نرى فى الأفلام، فتمتد اللحظات الأخيرة. كانت جدتى تحكى عن جدى الذى كان يجلس إلى المائدة قبل الإفطار ويجهز نفسه بملء ملعقته بالطعام، حتى إذا حان موعد الإفطار زج بالملعقة فى فمه دون انتظار، بينما هى لا تزال تحضر المائدة أو تغرف الطعام لصغارها، أى والدتى وإخوانها.
•••
قد يختلف الناس فى تعايشهم مع شهر رمضان، قد يطغى الجانب الدينى والروحى على البعض بينما يركز آخرون على الجانب العائلى و«لمة الحبايب»، قد يحاول آخرون أن يتجاهلوا الشهر تماما، فيستمرون فى ممارسة حياتهم بشكل طبيعى. وقد دخلنا كمجتمعات، وخصوصا فى السنوات الأخيرة، فى كثير من النقاشات والمهاترات حول السلوكيات فى شهر رمضان، لا سيما سلوكيات إظهار الصيام أو الجهر بالإفطار أثناء النهار، وهى برأيى مهاترات ليست فى مكانها فى ظل خصوصية العلاقة بين الفرد ودينه، وبما أنه من الأبدى الدخول فى نقاشات حول السلوكيات عموما، من تحرش مستمر فى الشارع إلى فساد متفشٍ إلى نفاق مجتمعى يؤذى الفرد أكثر مما يؤذيه إشهار أحدهم صيامه أو جهره إفطاره، لكن ما علينا.
•••
رمضان الذى أحبه تكثر فيه اللقاءات، يجتمع فيه الناس حول المائدة فيتحدثون كثيرا عن طفولتهم، عن رمضان فى بلادهم ومدنهم المختلفة، يرددون كلام المسحراتى حتى لو أنهم لم يعودوا يسمعونه فى الحارات الضيقة فى الليل. رمضان الذى أحبه يكثر فيه الشعور بالآخرين، يأخذنى الأصدقاء إلى جانب من غرفة الجلوس بحيث لا يسمع حديثنا باقى الحضور، ليسألونى إن كنت أعرف عائلات سورية بحاجة للمساعدة. رمضان الذى أحبه هو شهر أشعر فيه أننى محاطة بأشخاص أستطيع أن أعتمد عليهم فى فك ضيق أناس آخرين أنا على تواصل معهم.
•••
صحيح أن لرمضان تأثيرا ساحرا على، رغم أننى أصادف أصدقاء يقولون إنهم لا يحبون طقوسه ولا «فولكلورية» لياليه، هم أحرار. أنا من جانبى، لم أشعر بالغربة كما كنت أشعر بها خلال شهر رمضان حين كنت أعيش فى نيويورك. لم أنجح وقتها فى التواصل مع أى شيء فى داخلى سوى مع حزنى الشديد بالبعد عن القاهرة ودمشق. أذكر أننى كنت أجلس أمام شباك المطبخ أنظر إلى الجادة المزدحمة بينما تغرب الشمس وتبدأ المدينة بالتلألؤ من كثرة أضوائها. كنت أشعر أننى وحدى، مقتلعة من مكان شديد البعد وشديد الدفء، ومزروعة هنا فى مدينة مكتظة لا يمتلئ فيها مطبخى بالحركة قبل الإفطار. كنت أستغرب شعورى وقتها إذ لم أكن أشعر بالبعد والغربة عموما فى نيويورك، بل كنت أحب حياتى فيها كثيرا، فالمدينة عجيبة فى قدرتها على جعل كل من يعيش فيها يشعر أنه «نيو يوركى»، على عكس مدن أخرى كثيرة تشعرك دوما أنها على وشك أن تلفظك إن بدر منك تصرف أو كلمة لم ترق لسكانها الأصليين.
•••
رمضان يا شهر الخير، خذنى إلى مطبخنا هناك، وأعطنى مكيال جرعة من حب جدتى، التى كانت تحكى لى حتى أيامها الأخيرة عن شهر رمضان الذى أمضيته معها حين كنت لم أتعد عامى الأول، فأطعمتنى من طبخها رغم إرشادات أمى الصارمة حول ما يجب أن آكله وما لا يجب، على العكس من ذلك، كانت جدتى تفخر بأن حفيدتها التى لم تكتمل أسنانها فى ذلك الوقت قد استغرقت فى النوم حتى الصباح، ولأول مرة دون أن تستيقظ خلاله مرات عديدة، بعد أن أطعمتها «كوسا محشى» رغم تعليمات أمى.
•••
فى المطبخ فى القاهرة أتحرك بسرعة بين الأشياء، وأتساءل إن كنت قد وضعت كمية مناسبة من الملح والبهارات فى كل طبخة، أخشى أن أكتشف أن الطبخة لم تكتمل عناصرها، خصوصا وأننى من المؤمنات بـ«كمشة قرنفل» و«شوية فلفل»، إذ إننى لا أتبع وصفات محددة بل حدسى هو العنصر الأول فى ذلك. أعيش مع الإثارة فى الدقائق الأخيرة، أحرك الشوربة وأحاول أن أقدر، من رائحة بخارها إن كان ينقصها شيء. أحمل الأطباق، أنادى على أفراد العائلة، نجلس نراقب الساعة، يضع ابنى الأوسط ملعقته فى طبق الشوربة فأنهره بأن «استنى الأذان»، «أنا بس بجهزها»، يجيب، كما كان يفعل جدى فى دمشق. هنا يقوم أبى، أى جد طفلى، بإعلان وقت الإفطار. «ضرب المدفع» يقول، فينظر إليه ابنى الأوسط ناسيا ملعقته الجاهزة «شو يعنى ضرب المدفع؟». أضحك إذ إن مدفع رمضان هو من تلك الأمور التى يبدو أنها اختفت تماما مع جيل أولادى. فى مطبخ مشابه فى دمشق، تحركت جدتى أيضا بسرعة، وتساءلت أيضا عن الملح والبهارات فى الشوربة، بينما جهز خالى الأوسط على الأغلب نفسه لتناول اللقمة الأولى... مع ضرب المدفع.