قامِوس الضُّعفاء

بسمة عبد العزيز
بسمة عبد العزيز

آخر تحديث: الجمعة 14 يونيو 2024 - 7:10 م بتوقيت القاهرة

لم تكُن الذّراع بعد حلّ الجِبس على هيئتها الأولى. بدت أقلَّ حجمًا كما لو ضمرت عضلاتُها وتناقَص مُحيطها. ليس الحجمُ وحده الذي اختلف بل ضَعفَت القبضةُ وتراخت؛ لكن المرأةَ التي اعتادت أن تأخذَ جُلَّ أمور حياتِها ببساطة، لم تعبأ بما رأت ولا هزَّها الضَّعفُ المُستجَد. تناولت المَمسحةَ وراحت تُمارس مِهنتها في دأبٍ وتؤكد لنفسها في هَمس: بكرة تَرجِع لأصلها.
• • •
تقولُ قواميسُ اللغةِ العربيَّة أن الضَّعيفَ هو الواهِن القليل، ويأتي الفعل ضَعُفَ بضمّ العَين بمعنى رقَّ وهَزل وخَارت قواه، وضَعفت الشعلةُ أيّ خبت. المصدر ضَعْف بفتح الضاد وتسكين العين، أما أضعَفَ ففعل مُتعدٍ يحتاج لمفعول به ومصدره إضعاف؛ وإذا قيل أضعفته الظروفُ الصَّعبة فقد شقَّت عليه وأنهكته.
• • •
الضَّعف والقوَّة ثنائية مُتعددة الأوجُه؛ قد يتبادل فيها النقيضان مكانيهما بما يثير الدَّهشة. ربما يغدو الضعيفُ ما استخدم المشاعرَ والأحاسيسَ في التأثير؛ جبارًا قويًا، ويَضعفُ أمامَه من بدا صَلبًا خَشِنًا؛ وإذ يُقال إن في ضَعف المرأةِ قوتها؛ فواقع حقيقيٌ مَلموسٌ، له أكثر مِن جانبٍ ووَجه.
• • •
ربما يؤدي ضَعفُ البِنية الجَّسدية لزيادة اعتماد الفردِ على عقلِه ولجوئه للحيلة، وفي فيلم "عنتر ولبلب" يتغلبُ حسنُ التفكير والتدبير من شكوكو صَاحب الحَجمِ الضَّئيل، على كُتلة العضلاتِ البليدة التي مَثلها سراج منير، وفي حلقاتِ الرُّسوم المُتحركة التي طالما جذبتنا صغارًا؛ يُقدم البطلان توم وجيري أو القط والفأر؛ نموذجًا آخر.
• • •
فارقٌ شاسع ما بين الضَّعف والضِعف؛ فالأول وَهنٌ وتداعٍ والثاني كمٌ مُضاف. إذا ضَعُف المرءُ بفتح الضاد وضمّ العين واعتلَّت صحتُّه؛ عجزَ عن إتمام ما يَرغب من مَهام، أما إذا تضاعَفت قوتُه وبات مَوفورَ الصِحَّة عفيًا؛ أنجز بقليل الجهد ما أراد. نذكر في العادةِ ضِعف الكِميةِ ونعني مثلها مرَّتين، ونقول ثلاثةَ وأربعةَ أضعافِها لنفيدَ التكرارَ بقدرِ ما نذكُر من مرَّات، أما "الضِعفان" فمفردةٌ تبدو على غير المُتوقَّع دخيلةً، يندر استخدامُها. على كلّ حال، تتضاعَفُ الأسعارُ وتنفلتُ؛ بينما الزيادةُ في الرواتب والدخولِ لا تكافئها بحال ولا تستوفي أدنى حاجاتِ الناس.
• • •
يقولُ المَأثور: "كلُّ ذي عاهةٍ جبَّار" والمعنى حاضرٌ لا مُبالغة فيه، وله في حيواتِنا شواهدٌ تُجسّده وتؤكّده؛ إذ أن تَعطُّلَ حاسَّةٍ ما، يُصاحبُه تنامي الحَواس الأخرى وتألقها بأكثرِ من المعتاد، ولأن عَجزت العينُ عن الرؤيةِ مثلًا؛ اشتدَّت حِدَّةُ السَّمع وتعاظمَت مهاراتُ اللمْسِ والتذوُّق، والحاصلُ أن الجَّسدَ يُعوضُ ما فَقَد، ويتكيَّف مع وَضعِه أيًا كان.
• • •
كتبَ خليل مطران في وَصف حالِه وقد شفَّ الوَجدُ جسدَه وأعياه وترَكه في ضَعفٍ مُبين: "ثاوٍ على صَخرٍ أصَمَّ .. وليت لي قلبًا كهذي الصَّخرةِ الصَّماء .. ينتابُها مَوجٌ كمَوجِ مَكارهي .. ويفتُّها كالسقمِ في أعضائي". درسنا قصيدة "المَساء" في المرحلةِ الثانوية، ولا أعرف إن لم تزَل ضِمن المَنهج إلى يومنا هذا أم تعرَّضت للحذف؛ لكني كثيرًا ما أصادف مَن يشكو صعوبةَ النُّصوص ويتذمَّر مِن دراستِها، وإن كان مِنسَبب؛ ففقر إنتاجِنا المَعرفيّ الذي أدى لضعفِ ألسنتنا وتراجع استيعابِنا للغة العربية.
• • •
يَرجِع ضَعفُ الأداءِ مرَّات لغيابِ الرؤيةِ السليمة، وأخرى لخيبةِ القائمِ على تنفيذِها، وفي مرَّات ثالثة يكونُ الأمرُ مُحيرًا. على كلّ حال إذا لمتَستقِم الدُّفوع والمُبرراتُ وعَجَز صاحبُها عن إقناع الآخرين؛ قيلَ إنه ضعيفُ الحُجَّة، وإن كان الضَّعفُ ناتجًا عن عِلة في قُدرته على صَوغ أفكاره؛ قِيلَ إنه ضعيفُ العقل.
• ••
إذا استَضعَف واحدٌ الآخرَ؛ جَارَ على حَقه، وإذا لم يَجد مَن يردُّه عن غِيه؛ تمادى وأمعنَ. الضَّعفُ مُغرٍ بالتطاوُلِ والاعتداء، والمُستَضعَف قد اجتمَعت عليه الأسبابُ وجعلته في مَوضِع المَفعول به على امتدادِ الخَط؛ يَعجَز عن دَفع الأذى الذي يَطاله، ويَضعفُ أمام قاهرِه، ويَصمت عن الإهانة مُبتلِعًا ما أعدَّ من كلام.
• • •
جَرى العُرفُ على أن يُضرَب المثلُ في مَبلغ الضَّعف بالعُصفور؛ إذ يبدو دقيقَ الجسم، خفيفَ الوزن، رقيقَ الصَّوت؛ لكن هذا الضَّعفَ المُفترَض ليس حقيقيًا بصورةٍ مُطلقة؛ فأنواع من العصافير تتمتَّع بقوةٍ هائلة، تطير مسافاتٍ طويلة وتجوبُ الفضاءاتِ دون كَللٍ أو إرهاق، تُرى فيسعيٍ مُتواصل؛ قد لا يقدر عليه إنسانٌ في أوجِ نشاطه.
• • •
الضعيفُ هشٌّ سهلُ الكَّسر، سواء على المستوى الماديّ أو المعنويّ. قد يَرضخُ ضَعيفُ النَّفس لإغراءاتِ الحياة، ويَجد لنفسِه أعذارًا تجعله يبدو أمامَ الآخرين ضحيَّة، وعلى دينِه؛ يكونُ ضَعيفُ الأخلاقِ قابلًا للمُساوَمة؛ لا يَتمسَّك بقيمةٍ أو مَبدأ، يَتبرَّع بتقديمِ التنازُلاتِ ولا يَجد غضاضَةً في التواؤم مع مُقتضيات المَكسبِ مهمًا كانت مُخجلةً أو مُشينة، أما ضَعيفُ الإرادةِ والهِمَّة؛ فمُتخاذلٌ عن اتخاذِ مُبادرة، لا يقومُ بالخطوةِ الأولى أبدًا؛ بل ينتظر أن يتقدَّمَه الآخرون، وغالبًا ما لا يَجني ثمارًا مُرضِيَة.
• • •
يُشير ضَعفُ الرؤية إلى تضاؤلِ قوَّة الإبصار، أما ضَعفُ الرؤيا فيتعلقُ بالقُدرةِ على تمييزِ الأمور وإدراكها، وبناءِ الاستنتاجاتِ وتوقُّع الآتي؛ فإن تعطَّلت عند الناسِ البصيرةُ واستحكمَت عواملُ الضَّعفِ والهَوان وقِلة الحِيلة، توجهوا إلى الربّ بالشكوى؛ وتناسوا أنهم جزءٌ أصيلٌ من البلوى.

• • •
تقوم بعضُ اللقاحاتِ على فكرةِ إضعافِ الجراثيم المُسبّبة للمرض؛ ثم إدخالها إلى الجَّسد لتقوم الأجسام المُضادَّة بالقضاءِ عليها وتكوينِ مناعة، دون أن يلحقَ بالشَّخصِ ضَرر. ثارت في الآونةِ الأخيرة شكوكٌ حول عدد من اللقاحاتِ التي تناولها الناسُ لحماية أنفسهم من كورونا؛ إذ أصابتهم مضاعفاتٌ وآثار جانبية سيئة لم تكُن في الحسبان؛ وإذا بما عولوا عليه لإعطائِهم القوةَ والمنعةَ، يتحوَّل إلى مصدر إضعافٍ واعتلال.
• • •
يقولُ المأثور الديني: "المؤمن القويّ خيرٌ من المُؤمن الضَّعيف" والمعنى أن القوةَ جانبٌ مُحبَّذ، وأن الاكتفاءَ بالإيمانِ وحده نقصٌ لا فضل، وأن اتخاذ الأسباب والعمل على بناء الذات أمور مُقدَّرة ذات قيمة لا تُنكَر.
• • •
هؤلاءُ المقاومون البائتون في خيامِهم، المُتشبثون ببقائهم؛ الذين يتقاسمون الزادَ القتيرَ والأرضَ الخشنةَ وأزيزَ الطائراتِ المُهاجِمةِ وشظايا القَّصف؛ هؤلاء الذين لا يجدون ما يكفي سدَّ الجوع وإرواءَ العَطش؛ لا يعرفون معنى الضَّعف والتخاذل. هم ولا شكّ أكثرَ قوةً مِن كثير الآمنين في بيوتِهم، النائمين على أسرَّتهم، المُطمئنين لسلامتهم وعجزهم.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved