نشرت مؤسسة الفكر العربى مقالا للكاتب حسن زين الدين، يقول فيه إن حل معضلات لبنان وعدم استقراره يكمن فى النأى بالنفس عن أزمات المنطقة، متناولا بعض السياسات والإجراءات التى يمكن اتخاذها للمساعدة فى حلحلة تعقيدات المشهد اللبنانى... نعرض من المقال ما يلى.تعيش منطقتنا منذ أكثر من عقدين من الزمن غليانا وحروبا وانهيارات. وكانت تعمّقها تدخلات القوى الإقليمية والدولية وتزيدها استعارا وتعقيدا. ولولا بعض الأمل المتأتى من الانفراج الاستراتيجى الذى سبّبه الاتفاق السعودى ــ الإيرانى برعاية صينية وعدم اعتراض ظاهر من الولايات المتّحدة الأمريكيّة، لأَكمل لبنان مساره الانحدارى الجهنمى نحو المجهول المخيف. من هنا يعود الرّهان على النُّخب اللبنانية ومطالبتها بالاستثمار على الانفراج.
لا يخفى ذلك على المكوّنات اللّبنانيّة التى بدأت تنخرطُ فى نقاشاتٍ جديّة ومعمَّقة، علّها تَجِدُ مخارج وحلولا لهذا الاختناق السياسى، وعنوانه العجز عن انتخاب رئيسٍ للجمهوريّة. ولكلِّ مكوّنٍ سياسى أو طائفى رأيه فى مسبّبات ما وصلنا إليه، وله وجهة نظره فى الحلول السياسيّة المطروحة والإصلاح المنشود.
فالبطريرك المارونى بشارة بطرس الراعى يرى فى الحياد الإيجابى سبيلا لإخراج لبنان من أزماته، وبالتالى الحفاظ عليه كوطن آمن مستقرّ مزدهر. وتُواكب بكركى ذلك، برعايتها وتنظيمها لحوارات معمقة فى الموضوع، وإطلاق دينامية تبحث عن مقاربات مُشتركة بين مختلف المكونات الطائفية، لتوضيح معانى الحياد، والأهداف المتوخاة منه، واستخلاص الصيغة المناسبة التى يمكن أن تلتقى عليها شرائح واسعة من المجتمع اللبنانى. وفى هذا السياق أقيمت ورشة عمل فى جامعة القديس يوسف ضمت نخبة من المعنيّين ناقشت مفهوم الحياد وإمكانية تحقيقه فى هذه الظروف الحرجة واعتماده كبوابة للحل المرتجى.
فهل يصلح الحياد حلا لاعتماده؟ البحث عن الجواب يدفعنا للدخول فى عمق مسببات الأزمة القائمة؛ وفى الطليعة بينها، تلكم الهواجس والمخاوف التى كانت، ولا تزال، تعترى المكوّنات الطائفيّة اللبنانية، بعضها من بعض، ما يدفعها للتطلُّع نحو الخارج، إمّا طلبا للحماية أو تأمينا لمُكتسبات.
ثمّ تتوالى الأسئلة من مثل: هل تتوافق المكوّنات الطائفية اللبنانية على مفهوم الحياد والقبول بتطبيقه؟ وهل ستعترف دول العالم به؟ وهل فى لبنان دولة قوية يمكنها السير بهذا الخيار من دون تعريض البنيان الوطنى للتصدع؟
هذه الشروط ليست متوافرة الآن، يضاف إلى ذلك هشاشة التوازنات السياسية السلبية التى تقوم عليها الدولة، والتى هى غير قادرة بمؤسساتها ودستورها وقوانينها، على الاستجابة لمتطلبات اعتماد الحياد بمعناه المتعارف عليه. هذا من دون أن نسقط من حسابنا حدة أطماع إسرائيل فى أرضنا ومياهنا وثرواتنا، وكذلك الصراعات الإقليمية والاصطفافات الدولية الحادة. فالمُعطيات إذا، المحلية منها والدولية، لا تساعد، ليس على إعلان حياد لبنان فقط، بل قد يدخلنا ذلك فى أتون مشكلات وأزمات.
هل يعنى ذلك إبقاء لبنان أسير مشكلاته والدوران العبثى فيها، وانتظار الحلول التى قد لا تأتى؟ بالطبع لا. فالبديل المُتاح، والذى يمكن التوافق حوله، هو النأى بالنَّفس عن أزمات المنطقة، وتحييد لبنان عن الصراعات بين الدول الشقيقة والصديقة. هذه المُقارَبة للحياد الإيجابى قد تؤتى أكلها، فى الوصول للاستقرار فى لبنان.
لقد سبق لاتفاق الطائف الذى وُقّع فى العام 1989، والذى أنهى الحرب فى لبنان بتوافق إقليمى دولى، أن وَضع العناوين الرئيسة لتثبيت الاستقرار فيه، عبر بناء الدولة القويّة والمُحايِدة فى علاقتها بمكوّنات شعبها، والشفّافة لجهة إدارة مُختلف شئون المجتمع، والقادرة على تحييد لبنان عن صراعات المنطقة.
يُمكن للبنان أن تبدأ الآن بالعودة إلى بنود هذا الاتفاق، والسير على طريق الحلّ المنشود بانتخاب رئيسٍ للجمهوريّة وتشكيل حكومة العهد الأولى، والتى يجب أن تضع نصب عَينيها برنامجا يعطى جرعة أمل لشعبها، وذلك عبر:
أولا: إقرار سياسات جديدة قائمة على المُساواة والعدالة فى الحقوق والواجبات بين المُواطنين والمواطنات، وحتّى بين المجموعات لناحية احترام خصوصيّاتها العقائديّة ومُمارساتها الدينيّة.
ثانيا: رعاية الحوار الوطنى بين مختلف شرائح المُجتمع، وتشجيع التعاون بينها، ورفض كلّ المشروعات التقسيميّة والفدراليّة.
ثالثا: عصْرَنَة المؤسّسات الرسميّة وتحديثها والتزام الشفافيّة والمُحاسَبة لمُحارَبة كلّ أشكال الفساد، والتأكيد على الحَوْكَمة الرشيدة، وعلى حُسن استعمال موارد الدولة فى خدمة الشعب.
رابعا: تعميق ثقة المواطنة والمواطن بدولته، وتعزيز ثقة المكوّنات الطائفيّة بعضها ببعض.
خامسا: استقلاليّة القضاء عن السلطة السياسية، وإعادة هيْكلة السلطة القضائية بشكل يتيح لها لعِب دور الحماية لمصالح الوطن، بعيدا من المحسوبيات والمصالح والأنانيات. والحيادَ الخارجى ليس ضروريّا لتحقيق هذه المسلمات المحورية لبناء دولة قويّة عادلة ومجتمع متوازِن.
أثبت النقاش الهادئ بين النُّخب السياسيّة والفكريّة قدرته على تظهير القواسم المشتركة بين المكونات اللبنانية وتعميق التفاهمات على الثوابت الوطنيّة، واستبعاد الأطروحات الشعبوية. وقد تجلى ذلك فى ورشة العمل التى ذكرت أعلاه؛ ما يشجّع هو رغبة الأطراف المشاركة فى استكمال النقاش، وبلورة مواقف موحدة ترشد صناع القرار، وتخلق حيوية وطنية تقبل الآخر، وتفرض نفسها بديلا من التعصب والتقوقع.
إذا صَفَت النوايا، وإذا تواضَعَت التيارات اللبنانية وقرّرت الالتقاء فى منتصف الطريق، يُصبح الحلّ المنشود فى متناول أيديها.
النص الأصلى: