عن اقتراضنا من الصندوق
جلال أمين
آخر تحديث:
الجمعة 14 سبتمبر 2012 - 8:20 ص
بتوقيت القاهرة
مازال الجدل محتدما حول ما نشر عن عزم الحكومة المصرية الجديدة عقد قرض مع صندوق النقد الدولى يقرض الصندوق مصر بمقتضاه 3.2 بليون (ألف مليون) دولار، وقيل إن الحكومة طلبت زيادته إلى 4.8 بليون. بل لقد قامت مظاهرات تطالب بعدم إتمام القرض، وهى أول مرة، فى حدود علمى، تقوم المظاهرات فى مصر لهذا السبب.
وكما تعودنا من حكوماتنا المتعاقبة، تلتزم الحكومة الصمت عن الشروط التى سوف ترتبط بحصول مصر على القرض، فتصدر كالعادة تصريحات لا تفصح عما دار فى المباحثات، وعما إذا كان القرض يقترن بشروط قاسية كالعادة فى شروط الصندوق، أم أن الصندوق قد أبدى هذه المرة شفقة أكبر، نظرا لظروف مصر الصعبة، أو لأسباب أخرى سياسية مثلا، لا يقال لنا أيضا أى شىء عنها. الشعب المصرى يبدو، فى هذه المرة أيضا كالزوج المسكين، آخر من يعلم.
حدث قبل ذلك عندما دأب المجلس العسكرى الذى تسلم الحكم بعد ثورة يناير، مع الشكوى من سوء الحالة الاقتصادية، حتى قبل ان تسوء الحالة فعلا، ثم ساءت لعدة أسباب من أهمها فقدان الأمن، وهو ما كان من الممكن بسهولة تداركه. ثم أرسلت بعثات إلى واشنطن للتفاوض حول عقد قرض مع صندوق النقد لمواجهة هذه الحالة السيئة، فذهب وزير للمالية بعد آخر، وعادوا جميعا يقولون ان الصندوق عرض علينا عرضا مغريا جدا: المبلغ المعروض كبير، وسعر الفائدة منخفض جدا (1.5٪)، وفترة السماح (أى الفترة التى يبدأ بعدها سداد القرض) فترة طويلة ومريحة. فماذا كانت تصريحات المجلس العسكرى حول هذا العرض؟ قالوا انهم رفضوه محافظة على استقلال الإرادة المصرية، ولأن القرض يخلق أعباء على الأجيال القادمة.
بدا لى هذا الموقف وهذه التصريحات مدهشة جدا، ولا تقبل التصديق على أى نحو. فمصر مضى عليها أكثر من عشرين عاما وهى تقترض من صندوق النقد، وبشروط سيئة، ومن ثم تخلق أعباء على الأجيال اللاحقة (والتى أصبحت حالية). وكان رئيس المجلس العسكرى نفسه عضوا مهما فى الحكومات التى وافقت على هذه القروض وأمثالها من سياسات. لا يمكن إذن أن يكون القلق على مستقبل الأجيال اللاحقة هو السبب فى إحجام المجلس العسكرى عن الاتفاق مع الصندوق، ناهيك عن الرغبة فى المحافظة على استقلال الإرادة المصرية، فتصرف المجلس العسكرى مع شباب الثورة مثلا، وقد قاموا للدفاع عن استقلال الإرادة المصرية (من بين أهداف أخرى) لم يكن يوحى بالحرص الشديد على الاستقلال. ثم تأكد هذا المرة بعد الأخرى من نوع اختيار المسئولين الجدد كرؤساء للحكومة أو اختيار معظم الوزراء...الخ.
حتى الآن لا استطيع أن أفهم سر عدم اتمام الاتفاق مع صندوق النقد، فى عهد المجلس العسكرى. هناك عدة تفسيرات محتملة ولكن من المؤكد انه ليس من بينها لا الحرص على مصلحة الأجيال القادمة ولا على استقلال الإرادة المصرية. ثم نسمع فجأة عن عودة التفاوض حول القرض، وبجدية تامة، إلى درجة قدوم مديرة الصندوق نفسها إلى القاهرة، ومقابلتها لرئيس الجمهورية نفسه. ولكن لا شىء مقنعا يقال لنا هذه المرة أيضا فى تفسير هذا التغير المفاجئ. فماذا يجب أن يكون عليه موقفنا، نحن الشعب المسكين، إزاء هذه التطورات؟
●●●
ليس هناك جديد فى الحديث عن مساوئ التعامل مع صندوق النقد الدولى، إذ لم تعد سرا الوظيفة الحقيقية التى يقوم بها الصندوق، وهى خدمة مصالح رأس المال الدولى والشركات العملاقة وأهداف الإرادة الأمريكية. وقد نشر الكثير من المقالات والكتب التى تشرح هذه الأهداف وتدلل عليها. تجارب كثير من الدول الفقيرة (بل والأقل فقرا أيضا) التى تعاملت مع الصندوق وقبلت شروطه وتوجيهاته، ثم ندمت على ذلك لما أصاب اقتصادها من تصدع نتيجة لذلك. وكان الصندوق يشيد بسياسة هذه البلاد طالما كانت تنفذ طلباته، ثم يتنصل من المسئولية عن هذه السياسة بمجرد انهيارها. من أشهر هذه الكتب وأكثرها تأثيرا كتاب جوزيف ستجلتز (J. Stiglitz)، المعنون: Globa Tization and its Discontent?، والذى ترجم إلى العربية تحت عنوان (ضحايا العولمة، دار ميريت للنشر). وكان مما خدم قضية الكتاب أن مؤلفه كان قد حصل على جائزة نوبل قبل نشره بوقت قصير، وكان أيضا يعمل نائبا للبنك الدولى، مما مكنه من معرفة أسرار لا تتاح إلا لقليلين، ولا يجرؤ على فضحها إلا عدد أقل من ذلك.
صندوق النقد مشغول منذ فترة بمحاولة تحسين صورته بما يندرج تحت اسم «العلاقات العامة»، ولكنه لا يكف بالطبع عن اتباع نفس السياسة وتوجيه نفس النصائح (التوجيهات) وفرض نفس الشروط. ولكن كل هذا لا يكفى فى اعتقادى لتكوين الرأى الصحيح إزاء ما يفرضه الصندوق الان على مصر أو ما تطلبه مصر منه. فمن الممكن جدا أن توجد من الظروف ما يفرض عليك التعامل مع طرف لا تحبه، بل وقد تعرف أنه لا يهدف إلى تحقيق مصلحتك، فقد يكون هذا التعامل من قبيل «المر الذى يوجد الأمر منه» فهل هذه هى حالة مصر الآن؟
أما أن مصر تمر بظروف اقتصادية صعبة، فهو أمر لا شك فيه. والأسباب معروفة، وهى أسباب بعضها جديد (ظهر وتفاقم بعد الثورة بسبب أخطاء ارتكب بعضها عن إهمال، وبعضها، فى رأيى، ارتكب عن عمد، مثل التقاعس فى استعادة الأمن). وبعض هذه الأسباب قديم يرجع إلى سنوات كثيرة قبل سقوط عهد مبارك. وقد كتب الكثير عن أن متاعب مصر الاقتصادية، مهما كانت قسوتها، لا تضطرنا إلى الاقتراض من الصندوق، وأن هناك وسائل أخرى كثيرة يمكن بها لمصر الخروج من هذه الأزمة بالاعتماد على مواردها الذاتية. وهذا الكلام صحيح ولكن معظمه يغض البصر عن ان هذه الوسائل الأخرى الذاتية لها متاعبها الشديدة هى الأخرى، كما ان معظمها يحتاج إلى وقت قد لا تسمح به حالة المريض. ولكن الأهم من هذا وذاك أن اتباع هذه الوسائل اللازمة للخروج من أزمتنا الاقتصادية بالاعتماد على مواردنا الذاتية، لا يحتاج إلى مجرد اتخاذ بعض الإجراءات. وإصدار بعض القوانين الجديدة وتعديل قوانين قديمة (كقوانين الضرائب مثلا أو ضغط بعض النفقات...الخ) بل يحتاج إلى ما يمكن وصفه دون مبالغة بثورة اقتصادية. وهذا هو بالضبط أهم ما أريد أن ألفت النظر إليه فى هذا المقال.
أن رفض التعامل مع صندوق النقد الدولى ليس بالسهولة التى يتصورها كثيرون ممن تناولوا هذا الموضوع. وسبب الصعوبة أنه ليس هناك وسائل أخرى للخروج من الأزمة، بل هو أنك هجرت هذه الوسائل الأخرى منذ زمن بعيد. الرجوع إلى الحق فضيلة حقا، ولكنه ليس دائما فضيلة سهلة المنال. هل حالتنا تشبه حالة السكير الذى أدمن الخمر ثم يأتى من يلقى عليه موعظة فى مضار الخمر ومزايا احتفاظ الشخص بعقله؟ ربما كان فى هذا التشبيه بعض القسوة ولكنه قريب جدا من الصواب.
إن علاقتنا الوثيقة بصندوق النقد ترجع إلى أكثر من عشرين عاما. وقد اضطرتنا إليها سقوط حكومات السادات المتتالية فى فخ الاقتراض بسبب وبلا سبب، عندما كنا نحتاج إلى الاقتراض وعندما كنا فى غنى عنه، لأغراض السلم عندما كان لدينا ما يكفى لتحقيقها بدون اقتراض، ولشراء السلاح بأسعار فائدة باهظة دون أن نستخدم هذا السلاح لا فى الدفاع ولا فى الهجوم. ثم بعد أن توثقت علاقتنا بالصندوق، اضطررنا إلى التقليل من الاقتراض الخارجى ولكننا لم نكف عن ارتكاب سياسات اقتصادية حمقاء ورطتنا فى ديون داخلية تتجاوز الحدود المعقولة، وتحملنا هى نفسها أعباء ثقيلة، تتمثل فى فوائد باهظة، وعجز متزايد فى الموازنة العامة، وهو أحد الأسباب الأساسية التى تدفعنا الآن إلى الالتجاء إلى الصندوق لطلب قرض خارجى جديد. والجدير بالملاحظة أن علاقتنا الوثيقة هذه بالصندوق لفترة تقرب من ربع قرن، لم تمنعنا من ارتكاب هذه الحماقات التى أدت إلى تفاقم الدين الداخلى، إذ إن الصندوق (شأنه شأن أى مقرض له أجندته الخاصة) لا يعاقبك على حماقاتك بل يبدو أحيانا وكأنه يستعذبها لأنها تفرض عليك العودة إليه من جديد. بل انه لا يمانع أثناء ذلك. وإصدار شهادات بحسن سلوكك (رغم سوء سلوكك فى الواقع) طالما كنت تفعل له ما يريد. لم يحتج الصندوق مثلا ولا البنك الدولى على مشروع توشكى الذى بدد أموالا طائلة بلا جدوى، وساعد على تفاقم مشكلاتنا، بل تصرفت المؤسستان وكأن الأمر لا يعنيهما، متعللتين بالطبع بأننا دولة مستقلة. ولكن الحقيقة انهما يعاملاننا أحيانا كدولة مستقلة وأحيانا أخرى كدولة تابعة، حسب ما إذا كان هذا أو ذاك أكثر ملاءمة للمصالح التى يخدمها. لم يقولوا لنا ان الحل هو فى الإقلاع عن هذه الحماقات، بل قالوا ان الحل هو فى تشجيع الاستثمار الأجنبى. فجاءت حكومة أحمد نظيف بوزرائها المؤمنين بذلك (أو المتدربين على ذلك) وشرعوا فى تشجيع الاستثمار الأجنبى. ولكن الصندوق والبنك لم يحذراننا مما يمكن أن يحدث لنا وللاستثمار الأجنبى إذا وقعت أزمة مالية مثل أزمة 2008، والتى مازالت مستمرة حتى الآن. ذلك ان التنبؤ بمثل هذه الأزمات ليس من شيم الصندوق والبنك، ليس بالضبط بسبب صعوبة أى تنبؤ، ولكن لأن التحذير من مثل هذه الأزمات يضر أيضا بالمصالح التى يقومان بخدمتها.
●●●
نعم، لابد أن نتعلم الفكاك من قيود الصندوق والبنك، ولكن الأمر يتطلب أمورا كثيرة لا يبدو لنا أن رئيسنا الجديد وحكومتنا الجديدة قد حزما أمرهما بشأنها بعد. يجب تحديد موقفنا من الاستثمارات الأجنبية الخاصة (ما يجب وما لا يجب تشجيعه)، بل وموقفنا من توجهات الاستثمار الوطنى أيضا وطريقة معاملته، وما السياسة الضريبية المثلى إزاءه، فضلا بالطبع عن سياستنا التجارية إزاء الاستيراد والتصدير، ونوع التعامل مع منظمة التجارة العالمية، وتحديد علاقاتنا الاقتصادية بالكتل الاقتصادية الأخرى فى الشرق والغرب، وفى الشمال والجنوب...الخ. كل هذا ضرورى لإمكان الفكاك من أسر الصندوق والبنك، ولكن موقفك من كل هذا ربما جعل الصندوق والبنك يهجرانك قبل أن تهجرهما أنت.
على بركة الله إذن، فلنتخذ الموقف السليم من قروض الصندوق والبنك، ولكن ليس بناء على أنهما مؤسستان «شريرتان» ولكن بناء على أنك قد حزمت أمرك وقررت اتخاذ كل الخطوات الأخرى اللازمة للتحرر الحقيقى، فهل هذا هو حقا ما يدور بذهن النظام الجديد؟