الاقتصاد السياسى للفساد: التجربة المصرية
عبد الله السناوي
آخر تحديث:
الإثنين 14 سبتمبر 2015 - 5:50 ص
بتوقيت القاهرة
لم يكن رئيس الوزراء الدكتور «عبدالعزيز حجازى» مستعدا أن يصدق أو أن يتقبل ما استمع إليه عن عدد المليونيرات فى مصر بعد عام واحد من الانفتاح الاقتصادى.
فى منتصف السبعينيات سألته أثناء حوار مفتوح مع طلاب الصحافة بكلية الإعلام عن مدى صحة ما نشرته مجلة «روزاليوسف» عن أن عددهم وصل إلى الخمسين.
بشىء من الغضب نفى هذا الرقم وتحدى أن تثبت المجلة صحته.
بدا غضبه مثيرا إلى أبعد حد.
فهو رجل هادئ الطباع لا يميل إلى المشاحنات الكلامية، يحفظ الأرقام ويدقق فيها كأستاذ مالية عامة قبل أن يكون مسئولا فى الدولة.
بعد نشر حوار الدكتور «حجازى» فى صحيفة «صوت الجامعة» التى كان يشرف عليها الأستاذ «جلال الدين الحمامصى» ردت «روزاليوسف» بالأدلة والوثائق التى توافرت عند محررها الاقتصادى «محمود المراغى».
رقم الخمسين مليونيرا يبدو اليوم مثيرا للسخرية لكنه فى وقته كان صادما بطريقة يصعب تصورها.
مصر كانت مختلفة فى كل شىء.
لم تكن مستعدة أن تستوعب النشأة المفاجئة لطبقة طفيلية لا أحد يعرف من أين حصدت أموالها ولا فى أى نشاط إنتاجى تعمل.
بقرار واحد ابتدأ عصر جديد، هو عصر التوكيلات الأجنبية.
وزعت الحصص والأنصبة على أسماء دون غيرها، وفق حسابات لا علاقة لها بأى قواعد اقتصادية متعارف عليها.
فى غياب القواعد أطل الفساد قبل أن يتمركز ويتوطن.
هناك فارق بين الفساد الشخصى والفساد المنهجى.
الأول: انحراف بالسلطة والنفوذ يقع فى كل مكان وتحت كل النظم.
والثانى: تغول بالانحراف فى بنية السياسات والتشريعات.
فى توطن الفساد أزمة دولة تستنزف طاقتها ومواردها وأى آمال لها فى المستقبل.
الفساد قرين اقتصاد المحاسيب.
يقال عادة «السمكة تفسد من رأسها».
وهو تعبير ينطبق على مصر أكثر من غيرها.
الفساد فى السياسات قبل الرجال.
فى لحظة البداية بدا أن اللعبة قد صممت لأهداف سياسية قبل أن تكون اقتصادية.
القصة كلها تحتاج إلى مراجعة وقراءة فى الأوراق القديمة.
عندما تكون الإجابة واضحة عن الكيفية التى نشأت بها تلك الطبقة الطفيلية فإن الوصول إلى جذور الفساد يصبح ممكنا.
هذا ضرورى فى أى حرب حقيقية مع الفساد.
أن تعرف بالضبط من تحارب وكيف توحش من مرحلة إلى أخرى على مدى أربعين سنة متصلة نهبت فيها الموارد العامة وتعطلت القدرات الكامنة.
القضية ليست فى طبيعة النظام الاقتصادى بقدر ما هى فى غياب أى قواعد حديثة.
فى النشأة المشوهة للطبقة الجديدة ما يسىء إلى أى نظم رأسمالية حديثة.
لم يكن صاحب نوبل للآداب «نجيب محفوظ» اشتراكيا ولا ناصريا عندما أفزعته ظواهر الانفتاح الاقتصادى فى روايته «أهل القمة» التى تحولت إلى شريط سينمائى.
أعمال أدبية وسينمائية أخرى توسعت فى الخط نفسه وربطت بين الانفتاح الاقتصادى وإهدار النصر العسكرى فى أكتوبر.
الذين عبروا على الجسور لم يكونوا هم الذين جنوا الثمار.
ذهبت الجوائز كلها إلى من أطلق عليهم وقتها «القطط السمان».
عام (١٩٧٤) نقطة تحول مفصلية فى التاريخ المصرى، فقد طُوى نظام بتوجهاته الاجتماعية والاستراتيجية وبدأ نظام جديد يناهضها.
فى انقلاب السياسات جرى السعى لبناء طبقة تدعم بالمال والنفوذ سلطة حكم توشك أن تطوى صفحة ثورة يوليو.
هكذا اصطنعت الطبقة الجديدة.
منذ البداية بدت العيون مصوبة على وراثة القطاع العام وقلاعه الصناعية لا بناء وحدات إنتاجية جديدة يديرها القطاع الخاص.
ترددت نظريات تقول: إن إزاحة القطاع العام من ضرورات تنشيط القطاع الخاص.
وقد وفرت الأساس المنهجى للسياسات التى مهدت لتمركز الفساد فى بنية الدولة ومؤسساتها.
أمام صدمة التحولات تصاعدت حدة المواجهات ووصلت ذروتها فى انتفاضة الخبز عام (١٩٧٧).
كانت تلك نقطة تحول أخرى فى الاقتصاد السياسى للفساد فى مصر.
هرب الرئيس «أنور السادات» إلى الأمام وذهب إلى الكنيست فى نفس العام.
توسعت عمليات بيع القطاع العام مع إعلان القطيعة مع العالم العربى والصلح مع إسرائيل.
ولم تكن هذه مصادفة.
ما هو استراتيجى تداخل على نحو وثيق مع ما هو اقتصادى.
تذكر أن اللعبة بدأت بالتوكيلات الأجنبية.
فى عهد خلفه «حسنى مبارك» استطردت ذات السياسات وتوسعت عمليات خصخصة القطاع العام وبيعت وحداته بـ«تراب الفلوس»، على ما كان يصرخ منتقدوها بلا كلل.
فى السنوات العشر الأخيرة من حكم «مبارك» انتقلت مصر من الفساد المنهجى إلى الفساد المؤسسى.
كان صعود مشروع توريث الحكم من الأب إلى ابنه تعبيرا عن زواج معلن بين السلطة والثروة.
لم يكن هناك بد من الانفجار غير أن السياسات الاقتصادية لم تختلف بعد يناير.
حكم جماعة الإخوان المسلمين اعتمد النهج ذاته الذى كان يتبناه «مبارك» ولجنة سياسات نجله.
كان التكويش على السلطة والتكالب على الثروة من أسباب الانهيار السريع لحكم الجماعة.
المعنى فى ذلك كله أن الاقتصاد السياسى للفساد قوض كل النظم التى تعاقبت خلال أربعين سنة.
الفساد ينخر فى صلب الشرعية وينزع أى أحقية سياسية فى الحكم.
الحرب ضد الفساد أخطر تحديات النظام الجديد، مسألة مصير بالمعنى الحرفى.
النظام الجديد يحتاج إلى تثبيت أوتاده، وهذه تستدعى خطة لا تتوافر مقوماتها حتى الآن.
مكافحة الفساد تعنى بالضبط تفكيك نظام «مبارك» الذى سقط رأسه دون أن يلحقه جوهره، أو فصم العلاقة ما بين الثروة والسلطة.
الكلام كله يحتاج مراجعة فى بنية التشريعات التى تحرض على الفساد وتحميه.
القبض على وزير الزراعة بتهمة الفساد إشارة لها قيمتها، لكنها لا تكفى وحدها لإعلان الحرب.
شهدت مصر من قبل قضايا فساد مماثلة فى وزارة الزراعة ووزارات أخرى قيل فى وصفها إنها كبرى، غير أن البيئة العامة لم تختلف ومستوى الفساد لم يتراجع.
لماذا يستوطن الفساد وزارة الزراعة أكثر من غيرها؟
لأنه لا توجد ضمانات لحقوق الدولة فى أراضيها ولا أى قواعد للنزاهة والشفافية.
كما يقول المصريون «المال السائب يعلم السرقة».
إذا أردناها مواجهة حقيقية فلابد من نسف كل مقومات الاقتصاد السياسى للفساد من عند الجذور.