يتعلل الكثيرون بأن المناخ السياسى فى مصر مغلق والعملية السياسية تم تأميمها بالكامل، وتم تضييق المجال العام وخنقه على مدى السنوات الماضية، وبأن السلطة لا ترغب فى شراكة سياسية مع معارضة من أى نوع، وأنها ترى أن الأفضل للبلاد الاحتشاد خلف السلطة بالتأييد المطلق لمواجهة التحديات الكبرى كالإرهاب والإصلاح الاقتصادى، وعدم وجود فرصة لتحقيق ما يعتبرونه رفاهية سياسية بالسماح ببروز قوة معارضة تتبنى وجهات نظر مختلفة وتحمل رؤى مغايرة لنهج السلطة وممارساتها.
والحقيقة أن هذا واقع لا يمكن القفز عليه أو تجاهل تأثيراته وإنكار تداعياته، لكن من زاوية أخرى نقدية يطرح السؤال نفسه، هذا موقف السلطة فماذا عن موقف القوى السياسية المفترض أنها فى مربع المعارضة الموضوعية؟
لا أحد يجيب عن هذا السؤال سوى بالأعذار والتبريرات، ليأخذك للمساحة العدمية التى ينتهى عندها النقاش ليبرر الرضوخ للواقع واستمراره.
بإلقاء نظرة تشريحية على واقع القوى السياسية فى مصر نحن أمام ثلاث عينات مميزة؛ الأولى شريحة التأييد ونفاق السلطة وتزلفها، وهى المسموح لها بالنشاط تحت سقف السلطة وتوجيهاتها، والشريحة الثانية هى القوى السياسية التقليدية المفككة تماما والتائهة فى مواقفها والتى تم تعجيزها وشل حركتها واستجابت لذلك ورضيت به، فى ظل غياب قيادات ورموز يعول عليها فى تجميع هذه القوى المفككة وبناء تنظيماتها أو حتى توحيد خطابها، فصارت باهتة الأداء ومنخفضة السقف ومنعدمة التأثير بالإضافة لفقد المصداقية لدى جماهيرها، فضلا عن فقد المصداقية لدى الدائرة الكبرى من الناس، الشريحة الثالثة هى مجموعات الشباب الذين اندمجوا بالسياسة عقب ثورة يناير، ثم عزفوا عنها منذ يوليو 2013 وصار خطابهم العام تغلب عليه سمة الرفض والضيق بالأوضاع العامة والانسحاب من الواقع إلى الشاشات الإلكترونية لينفسوا عن غضبهم فى ظل انسداد قنوات التعبير عن الرأى وتكميم المجال العام.
***
يجمع بين الشريحة الثانية والثالثة غياب خطاب سياسى مكتمل الأركان وواضح المعالم وجاذب للجماهير، على الرغم من أن قطاعات واسعة من الجماهير غير راضية عن الأداء العام بسبب صعوبة الحياة والغلاء وغموض المستقبل وازدياد المعاناة فى توفير لقمة العيش فإن هذه الجماهير لا تجد فى خطابات الرفض الفضفاضة جاذبا لها، الناس فى مصر تفضل احتمال شظف العيش ومرارته عن القفز فى المجهول، ميل المصريين لحب الاستقرار يضاعف قدرتهم على امتصاص الصدمات والتأثيرات السلبية للإصلاح الاقتصادى، وعلى الرغم من عدم ثقتهم فى أن الإجراءات الاقتصادية وأسلوب إدارة الملف الاقتصادى بشكل عام يسير فى الطريق الصحيح فإنهم يقولون فى قرارة أنفسهم كما يقول المثل الشعبى (اللى نعرفه أحسن من اللى ما نعرفهوش)، لذلك إذا أرادت القوى السياسية أن تكون معبرة عن الناس فلا بد من بناء خطاب متماسك يعنى بقضايا الناس وهمومهم، لا يكفى أن تقول للناس إن سياسات السلطة خاطئة وإنك ترفضها، بل يجب أن تقول لهم ما هى السياسات البديلة التى يمكن تبنيها وتؤدى لتحسن الأوضاع.
لا يريد الناس أن يسمعوا عبارات من نوعية (التعليم فاشل والمنظومة الصحية سيئة ومنظومة النقل العام بائسة.. الخ)، بل يريدون طرحا إيجابيا يقوم بإنتاج وتسويق السياسات البديلة وطرح الحلول ووضع تصورات منطقية واقعية قابلة للتطبيق.
مستوى الخطاب لا يمكن حصاره ولا منعه، لأن الأفكار غير قابلة للتقييد والمنع، لا نتحدث الآن عن بناء تنظيمات سياسية ولا تنفيذ فاعليات جماهيرية ولا أى مسار من المسارات المغلقة حاليا، بل نعنى بحديثنا مستوى الأفكار والتصورات الذى سيقود لتغيير الواقع تباعا بعد ذلك.
تخيل أن القوى السياسية التى لم تنبطح ومجموعات الشباب الرافض انشغلت بإنتاج سياسات بديلة وبناء خطاب متكامل بدلا من تضييع الوقت فى السخرية من السلطة وممارساتها وبدلا من هدر الوقت والجهد فى الصراخ الذى لا يسمعه أحد؟ بالتأكيد سيكون الفارق كبيرا فى المشهد العام وسيصب بلا شك فى مصلحة الوطن والمواطن.
***
نحن لا نحتاج لزعماء ملهمين ولا آباء روحيين حتى يمكننا أن ننتج السياسات البديلة، كل ما نحتاج إليه هو جدية وشعور بالمسئولية تجاه الوطن، وفهم لضرورة التقدم لذلك وعدم البقاء فى نفس المربع العدمى أو التعلل بالظروف والمناخ الخانق.
السياسات البديلة والرؤى والتصورات التى ترسم الخطى للمستقبل هى ملك الوطن نفسه أيا كانت السلطة التى تدير البلاد وتصر على تجاهل كل الأفكار والرؤى التى يطرحها آخرون، يريد أن يعرف الناس تصورنا الواقعى كمثال حول قضية التأمين الصحى وضمان حصول الفقراء على خدمة ورعاية صحية آدمية، كيف نرى ذلك وكيف نوازن بين جودة الخدمة وتكلفتها وكيف نعيد هيكلة المستشفيات العامة لتصبح مصدر دخل لخزانة الدولة بدلا من أن تصبح عبئا عليها، كيف نرتقى بدخل الأطباء فى وزارة الصحة حتى نخلق لديهم الحافز للعمل فيها، وكيف نضمن حصول الأطباء على أعلى وأحدث تدريب فى مجال تخصصاتهم وكيف نؤسس منظومة للجودة الطبية تنافس مثيلاتها فى العالم.
هذا مجرد مثال لقضية تهم الناس وتؤثر على حياتهم، وهذا ما يجب أن يدركه المهتمون بقضية الديموقراطية فى مصر، الناس لا تحتاج لخطاب حشد وتعبئة سياسية قدر ما تحتاج لأن تطمئن أن هناك طرفا آخر غير السلطة يمكن أن يقدم بديلا آمنا لا يأخذ البلاد لمغامرة غير محسوبة العواقب.
سيبادر البعض بالسؤال: وما أهمية ذلك إذا كانت هذه التصورات والرؤى لن يتم تنفيذها الآن؟ وهذا سؤال به مغالطة كبرى لأن صناعة التغيير تمر بمراحل لا يمكن اختزالها فى الوصول للحكم، بل قد تدفعك فرصة سياسية ما وظروف ما للوصول للحكم ثم تكتشف أنك فارغ بلا رؤى قابلة للتطبيق فتفشل وتقدم صورة سيئة لأنصار الديموقراطية فيزداد إحباط الناس ويأسهم.
***
واجب الوقت هو بناء خطاب القدرة فى مواجهة خطاب العجز، وتقديم سياسات بديلة موضوعية بدلا من سياسات عشوائية تنافى المنهجية وتفتقر للإبداع، لا يتم عمل ذلك للترويج السياسى لشخص ولا حزب ولا مجموعة بل من أجل مستقبل الوطن الذى يحتاج حتما لهذه المنهجية التى تشبه خطة إنقاذ تعيد للناس الأمل فى الغد، لن يتم تحقيق ذلك دون خريطة للأولويات والملفات ذات الأهمية ودون تنسيق بين كل المهتمين بالبناء، الواقع السياسى المؤلم ليس مبررا للركون والانتظار دون عمل وإنجاز على أى مستوى، قبل أن نلوم غيرنا علينا مراجعة أنفسنا، هل فعلنا ما نستطيع فعله؟ هل فضلنا الصمت والسكون والراحة عن القيام بالواجب؟ لا أحد يستطيع منعك من التفكير، لكن أنت وحدك تقرر ما تفعله.