لا يعرف الإنسان أن بقى مكان للمنطق فى بلاد العرب، ومع ذلك فلنحلل موضوع العراق وسورية بصورة منطقية هادئة.
ليس من شك بأن تاريخ العرب الإسلامى قد تمظهر فى أعظم وأبهى صوره فى دمشق سوريا وبغداد العراق لعدة قرون. وبالتالى فإن موضوع بقاء القطرين فى الحاضر والمستقبل العربى هو إما استمرار لجزء مهم من تاريخ الأمة فى أمد الحياة البشرية الطويل أو توقفه ودخوله فى قبور المتاحف كذكرى وعبر.
من هنا لنطرح السؤال الأول: لو أن سوريا والعراق اتحدا يوم كانا تحت حكم الحزب الواحد، وكونا فى حينه دولة عربية كانت جديرة بأن تصبح من أغنى الدول العربية فى ثرواتها الطبيعية، ومن أكبرها منعة باندماج قوتيهما العسكريتين الهائلتين، ومن أكثرها صلابة فى وجه الكيان الصهيونى الغاصب، ومن أشدها تمسكا بالتضامن الوحدوى العروبى... لو أن ذلك حدث فهل كان سيحدث لهما ما حدث من تدخل أو اجتياح من قبل قوى الخارج الاستعمارية والصهيونية والإقليمية، ومن استباحة من قبل جنون وعبث وهمجية الميليشيات الرافعة زورا وبهتانا لرايات الإسلام، ومن رفع لمطالب الانفصال والتمزيق الطائفى والعنصرى والقبلى؟
ليس هذا بالسؤال الطفولى العبيط، بل هو إشارة إلى مأساة وأهوال الجرحين الهائلين فى جسد القطرين العربيين العزيزين وهما ينزفان دما ودمارا وإمكانية فناء.
***
والآن، وبعد أن واجه القطران نفس المؤامرات، من نفس المصادر، بنفس أسلحة الغدر والخيانات من البعيد ومن الإخوة الأعداء القريبين، وبعد أن نجح كل ذلك فى نشر الدمار والاقتلاع واضطرار الملايين للخروج إلى منافى الضياع وفى معاناة ستة ملايين من أطفال سوريا وخمسة ملايين من أطفال العراق من المرض والجوع والحرمان من الدراسة والتشرد فى الشوارع، وبعد أن ضعفت الدولتان إلى حدود العجز أمام حركات الانفصال والتقسيم وإشعال الصراعات الطائفية والقبلية... الآن وكلاهما يحصدان ما زرعه ضياع فرصة التوحيد التاريخية التى أشرنا إليها، فإن السؤال الثانى لا بد أن يطرح نفسه ويستدعى الجواب الواضح الصريح. السؤال: هل تعلم القطران الدرس، وهل سيستفيدان من عبر أوجاع وأهوال الجراح المتماثلة والمشتركة؟
بمعنى آخر هل سيحدثان زلزالا استراتيجيا فى الأرض العربية من خلال توجههما بخطى ثابتة، حتى ولو كانت تدريجية، نحو تبنى وتنفيذ خطوات وحدوية فى الاقتصاد والأمن الداخلى والخارجى والسياسة والعمالة والنظام المجتمعى المدنى والتربية والتعليم وحقوق المواطنة، على سبيل المثال؟
نحن هنا نتحدث عن بناء سد منيع فى وجه أعداء الخارج والداخل، وعن الانتقال إلى نهضة عروبية ديموقراطية حقيقية يشع نورها فى آفاق الوطن العربى الكبير.
وعندما نشترط الديموقراطية فإننا نفترض تجنب القرارات الفوقية التى شبع الكل من بلادتها وأخطائها والاعتماد على التأكد من إشراك ورضا غالبية مواطنى المجتمعين. الأهداف والوسائل وخطوات التنفيذ وتقييم الرضا عن النتائج يجب أن تكون ديموقراطية حقيقية.
لا تهمنا التفاصيل إطلاقا، ولا الشروط التعجيزية، ولا حتى التوقيت، ولكن يهمنا انقلاب السحر على سحرة الاستعمار والصهيونية وأساليب دوائر الاستخبارات وأدوات أولئك من القلة القليلة من جهلة العرب.
***
هل نحن نتكلم عن أضغاث أحلام وأحلام يقظة؟ أبدا، فإذا كانت بغداد وكانت دمشق تفخران بأنهما كانتا من قمم مهد الحضارة العربية الإسلامية التى شع نورها منهما، وبالتالى فإنهما فى قلب التاريخ والجغرافيا والحضارة والإبداع لهذه الأمة، فإننا ننتظر من تلك الحقائق الساطعة الملهمة أن تخرج القطرين، ومعهما أمتهما، من حالة الوقوف والبكاء على الأطلال إلى حالة جمع كل طوبة فى أرض الخراب التى يعيشان عليها لإعادة بناء ما دمرته التدخلات الشيطانية. والأحقاد والبلادات.
شعبا العاصمتين العظيمتين قد خرجا من تحت الرماد والأنقاض المرة تلو المرة عبر تاريخهما، وهما قادران على إعادة عبق تاريخ انتصارات هذه الأمة على أعدائها.
دعنا نقولها بصوت عال وبغيرة على هذين القطرين الرائعين: لا العراق لوحده ولا سوريا لوحدها سيستطيعان الخروج من أهوال دمار المأساتين الهائلتين اللتين فرضتهما دوائر الاستعمار والصهيونية والاستخبارات الأجنبية والمتآمرون فى الداخل العربى مع الأسف الشديد والحسرة الباكية.
سيكون مفجعا لو أن المسئولين فى النظام السياسى للبلدين، ولو أن قادة المجتمع المدنى فى كلا القطرين، لم يفكروا فى إحداث تغيير جذرى فى نمط تفكيرهم السياسى وفى نمط التعامل مع نتائج الكوارث التى حلت بالقطرين وببقية أجزاء بلاد العرب بدون استثناء.
نحن هنا لا نتحدث عن خلق زعامات منافسة لأحد ولا التوجه نحو ادعاءات بقيام قيادات تاريخية ملهمة ممتلكة لشرعيات غير ديموقراطية. نحن، فقط، نطالب بألا نبقى ندور فى حلقة الأخطاء والبلاهات السابقة.