مقعد بين الأرض والسماء
تمارا الرفاعي
آخر تحديث:
الأربعاء 14 سبتمبر 2022 - 9:15 م
بتوقيت القاهرة
أتخيل أن الحياة أرجوحة، مقعد معلق من طرفيه بحبلين، يتحرك الكرسى إلى الأمام وإلى الخلف بقوة دفع من يجلس عليه. إن كان للجالس عزم فسوف يدفع بنفسه بقوة نحو السماء، ولكن القوة ذاتها ستعيده إلى الأرض وقد يقع من أثر العزم.
• • •
حياة معلقة بحبلين مصممة خصيصا لتبقى بين السماء والأرض. ترقص بين الغيوم وتعود إلى ارتفاع مقبول ويشعر من فيها بالنشاط والإثارة والمغامرة والخوف والقلق على إيقاع الحركة نحو السماء ونحو الأرض. وشعور بالإثارة على إيقاع الحياة. نبض على الأرجوحة سريع أحيانا وخفيف أحيانا أخرى.
• • •
أجلس على الكرسى وأمد ساقى أمامى فأطير نحو غيمة تتلقانى بدفء بداية الخريف. داخل الغيمة ضباب ولا تصلنى أشعة الشمس. ثوانٍ أحس فيها بالضياع فأتحرك وأكاد أفقد توازنى. إن وقعت من السماء سأرتطم بالأرض فأثبت يدىَّ على الحبلين وأعيد ساقى إلى الخلف لأنزل. أتنفس من جديد، ها قد عدت نحو الأرض وعاد ما حولى مألوفا. هنا يقف زوجى مع أطفالنا وها هى أمى فى الظل تحت الشجرة، أما أبى فقد رفع رأسه من الكتاب وهز وجهه فى تحية باتجاهى.
• • •
لقد عدت من الضباب وما زلت أجلس هنا على أرجوحة اسمها الحياة. هل من المعقول أن تكون الحياة بهذه الهشاشة فعلا؟ قطعة خشب معلقة بحبلين تتحكم بعقلى وقلبى فتدخل الخوف إلى نفسى وكأننى صعقت بشريط كهربائى ثم تهدأ من الصعقة بحلويات مثلجة تذوب على جسدى المصعوق!
• • •
أكيف تنفسى مع إيقاع الأرجوحة؟ شهيق مع انطلاقى نحو السماء، زفير مع عودتى إلى الأرض.
أسرع أحيانا من حركة ساقى علنى أسابق الأحداث وأستبقها، أريد أن يمضى شهر أكون قد طويت معه سنة صعبة. لكنى لا أتحكم بالدقائق فهى رتيبة وثابتة وسباقى لن يغير من سرعتها إنما سيغير من سرعة دقات قلبى القلق. أبطئ أيضا أحيانا من حركة ساقى علنى أمد وقتى مع ابنتى فأبقيها طفلة صغيرة تدس أنفها فى رقبتى حين تنام وأمتنع عن محاولة فصلها عنى مهما كبرت.
• • •
عبثا حاولت التغلب على حركة الأرجوحة: الحركة متوقعة وأى محاولة للسيطرة عليها قد يغير قليلا من الإيقاع وقد يريحنى التغيير أو يبعث فى نفسى القلق. فى السنة المنصرمة تعلمت أن أكيف نفسى مع حركة الأرجوحة مرة إلى الأمام ومرة إلى الخلف. لحظات فرح أشعر فيها أننى أملك العالم من على عرش بين الغيوم ويصبح المقعد الخشبى أريكة كاملة يجلس معى فيها كل أحبائى. ثم سقوط حر فى نفق طويل ومظلم أكون فيه وحدى بينما تصلنى كلمات من تركتهم خارج النفق. «نحن معك، نحن هنا» يقول من بقى فى الخارج.
• • •
تعلمت فى السنة الماضية أن خطتى التى غطت كل جوانب حياتى حتى عامى الثمانين قد لا تصمد أمام خبر يغيرها. تعلمت أيضا أنه حين تتعرقل الخطة فأظن أنها فشلت، أتفاجأ أنها تعود حيز التنفيذ. أشعر أننى أملك قدرة تحكم كاملة بمصيرى ثم تنسحب منى هذه القدرة كما سحبت مرارا من أولادى أجهزة التحكم عن بعد بالتلفزيون مثلا. ماذا أفعل الآن دون جهاز التحكم؟ أعترف أن لا جهاز عندى سوف يعيد الصورة التى كانت على الشاشة. ثم أتأمل ما حولى مع اعترافى أننى لا أتحكم بشىء، على الأقل فى تلك اللحظة. ثم أمعنت النظر بالشاشة فقد تغيرت المشاهد أصلا. أقترب من الشباك لعلنى ألتقط إشارات من الكون. الشجرة تفقد أوراقها ثم تعود وتكتسى بالزى الأخضر. ما زلت دون جهاز التحكم لكن أليس هذا أكبر دليل أن ما حولى مستمر حتى دون تدخل منى؟ يا لها من لحظة تدعو إلى التواضع وإلى وضع النفس فى مكانها: أنا لا أتحكم بالعالم!
• • •
حبال أرجوحتى معلقان بشجرة توت يمتد ظلها فوقى فى يوم صيفى حار. أمد ساقى فأرتفع وأجذب ساقى تحت المقعد فأهبط. أتحكم بسرعة مشوارى إلى السماء وعودتى إلى الأرض ولا شىء أكثر من ذلك. أرفع رأسى خلال الإقلاع والهبوط فيدخل وجهى بين ثمرات التوت وأشم رائحة الصيف فى دمشق وأرى أطباق التوت بلونه الداكن وطعه السكرى. فى آخر الصيف تجتمع أسرة ممتدة على ثلاثة أجيال فى بستان أحد الأقارب فيجلس الأكبر على قطعة قماش على الأرض ويلعب الأصغر بين الأشجار. أما من أعمارهم فى الوسط فهم منشغلون بترتيب لوازم المشوار وقصصه. أراقبهم من على أرجوحتى وأرانى ألعب بين الأشجار مع الأطفال ثم أجهز الطعام مع أقرانى ثم أجلس على الأرض مع الحاضرين الأكبر عمرا. أرانى فى المراحل الثلاث وأنا أطير مع الأرجوحة ذهابا وإيابا بين السماء والأرض.
أنا على الأرجوحة دون جهاز التحكم. هذا أصعب درس تعلمته هذه السنة.
كاتبة سورية