عندما تختلط الأمور
إكرام لمعي
آخر تحديث:
الخميس 14 أكتوبر 2010 - 10:11 ص
بتوقيت القاهرة
كشفت الأزمة الطائفية الأخيرة عن أن هناك كثيرا من الأمور اختلطت على الناس والدولة والمؤسسات الدينية فى بلادنا، ونتيجة لهذا الخلط سقطت حواجز بقصد أو بغير قصد، وأطلقت أحكام بحسن نية أو بسوئها، واهتزت صور لقيادات كانت تحوز احترام الجماهير، وتداعت نظريات ظنناها ما زالت ثابتة وسارية وأفكار لم نكن نتوقع سقوطها بهذه البساطة.
هكذا أصبح الوطن قاب قوسين أو ادنى من فوضى لا يعلم احد ما الذى يمكن أن يحدث من خلالها، أولا يتوقع نتائجها لولا بقايا من عقلانية وأصالة وبعض سمات مصرية عريقة لإنسان نشأ على ضفاف النيل ينزع نحو الحياة والسلام والسكينة والسؤال هو ما الذى جعل مصر تصل إلى هذه الحافة الحادة والتى كادت تسقط منها؟!
والإجابة ــــ بحسب رأيى ــــ إنها النتيجة الطبيعية لخلط الأمور، والسؤال التالى كيف ولماذا تختلط الأمور عند شعب من الشعوب للدرجة التى فيها يتعرض لتدمير ذاته بذاته؟!
هنا سأحاول عزيزى القارئ أن أقدم لك بعض الأسباب لاختلاط الأمور:
أولا: تختلط الأمور عندما نخلط
بين الثابت والمتغير:
الثابت هو الوطن والمتغير هو الشعوب السابقة واللاحقة القادمة والذاهبة المقيمة والمهاجرة، والثابت هو النص الدينى والمتغير هو الفقه واللاهوت والتفسير، الثابت هو المكان (الجغرافيا) والمتغير هو الزمان (التاريخ)، وعندما يحدث الخلط بين الثابت والمتغير يحدث الاضطراب والقلق والزلزال، فعندما يعتبر البعض أن التاريخ ثابت ويقف عند لحظة معينة حدثت فى يوم ما أو زمن بعينه ويعتبر أن الزمن قد توقف عندها ويجعلها المحور الذى يدور حوله تاريخ الأمة وكيانها، رغم تكرار وتعدد هذه الوقفات، ويأتى آخر ويقف عند نقطة أخرى فى التاريخ والاثنان يتجاهلان أن هذه الوقفات ما هى إلا مسيرة تاريخية لا تساوى فى تاريخ الأمة إلا ذكرى معينة تحكى أو تروى غير منفصلة عن سابقتها ولاحقتها لنخرج فى النهاية إلى نتيجة مهمة هى استيعاب الوطن الثابت لهاتين اللحظتين ولغيرهما من اللحظات، عندما نعتبر الوطن الثابت متغيرا بسبب لحظات زمنية ونعتبر اللحظات الزمنية المتغيرة هى (الثابت) تختلط علينا الأمور، ولقد حدث هذا فى مصر أكثر من مرة، فهناك من يقف عند لحظة دخول المسيحيين إلى مصر، وآخر يقف عند دخول الإسلام، وثالث يقف عند تأسيس مصر الحديثة، ورابع يقف عند ثورة 23 يوليو ويلغى كل ما سبق، وخامس وسادس، هنا يحدث الانهيار للمجتمع لأننا اعتبرنا الثابت (الوطن) متغيرا والمتغير (الإحداث التاريخية) ثابتا.
كذلك من يعتبر النص الدينى (الثابت) متغيرا واللاهوت والفقه والتفسير (المتغير) ثابتا تكون الطامة الكبرى، فاللاهوت والفقه والتفسير أعمال بشر يصيبون ويخطئون، وتتغير آراؤهم مع الزمن أما النص فهو إلهى ثابت، والخلط بين الاثنين يدمر الأمة.
ثانيا: تختلط الأمور عندما نخلط بين الحركات الجزئية والاتجاه العام:
فى أى مجتمع من المجتمعات التى تضم أتباع أديان مختلفة، وجنسيات وأعراق متعددة..الخ نحتاج إلى إعطاء حرية حركة لكل التوجهات الجزئية فكل تابع لدين أو لمؤسسة دينية أو أماكن عبادة أو جماعات دراسية أو حزب أو نقابة.. إلخ يهمه جدا أن يتحرك بسهولة ويسر فى مجتمعه وان يكون له نوافذ إعلامية تعبر عنه وعن آرائه مثل جريدة وإذاعة وفضائية وموقع الكترونى.
. إلخ، ولا يستطيع احد أن يقف ويعرقل هذه الحركة الحية فى المجتمع، إلا أن كل مجتمع له اتجاهه العام، والاتجاه العام يعبر عنه بالنظام العام الذى يؤدى إلى السلام الاجتماعى وهو ذاته الذى يعطى هذه الحركات الزخم الذى من خلاله يجعلها تصب فى صالح المجتمع وأمانه وسلامه، لكن عندما تخلط مؤسسة دينية أو نقابة أو ناد أو جماعة دينية أو سياسية مهما كانت بين حركتها فى المجتمع والاتجاه العام للمجتمع، فتعتبر أنها هى الحركة وهى فى نفس الوقت الاتجاه وتريد أن تفرض توجهها الخاص على المجتمع ككل، فيصبح هو التوجه العام وتريد للمجتمع بكل حركاته وأنشطته أن يخضع لتوجهها، هنا يحدث الخلط المشين، إن المجتمعات الديمقراطية تترك الحرية لكل التوجهات السياسية والدينية والثقافية لكى تتفاعل وتتحرك وتنشط، لكن ليس لأى حركة مهما كانت واسعة وعميقة أن تفرض توجهها على الآخرين وكأنه توجه المجتمع ككل، حتى لا يحدث الخلط بين الأمور ويقع الصراع.
ثالثا : تختلط علينا الأمور عندما ننادى بحق الاختلاف مع عدم القدرة على إدارة التنوع :
فكل جماعة تعيش فى المجتمع تنادى بحق الاختلاف، وعندما تنادى بهذا تعنى أن لها الحق أن تعلن عن اختلافها مع المجتمع المحيط بكل تنوعاته لكنها فى نفس الوقت ترفض أن يعلن الآخرون اختلافهم عنها، وهذا يعنى سوء إدارة للتنوع، أى لا توجد إستراتيجية عامة فى المجتمع لإدارة التنوع يمارس من خلالها حق الاختلاف، ولقد جاء سوء إدارة التنوع فى بلادنا نتيجة القبلية والعصبية، ودولة الحزب الواحد ،ودولة البعض وليس الكل، وعلاج هذا الخلط لا يأتى من خلال المثقفين أو المتدينين، لكنه يأتى بإعادة صياغة الدولة لتكون دولة للجميع، وهذا لا يتحقق إلا بدولة مدنية حقيقية تعلن إستراتيجية واضحة لإدارة التنوع فيها.
وتقوم هذه الدولة من خلال حزبها الحاكم أى حزب الأغلبية فيها بتقديم برنامج لإدارة التنوع فى مصر مع الاعتراف بحق الاختلاف بل على كل حزب معارض أن يقدم فى برنامجه خطته لإدارة التنوع أما المناداة بحق الاختلاف مع عدم القدرة على إدارة التنوع فهو الخلط المعيب المدمر لكل شىء.
رابعا: تختلط علينا الأمور عندما نخلط بين الدينى والمذهبى من ناحية وبين السياسى من الناحية الأخرى:
نحتاج إلى فك الارتباط وعدم الخلط بين الانتماء الدينى والانتماء السياسى فالمشكلة التى نحن بصددها ليست دينية ولا ثقافية بل هى مشكلة سياسية من الدرجة الأولى، فكلما وقعت فتنه ما نصرخ إنه الخطاب الدينى المنفلت، إنها المؤسسة الدينية لكننا إذا تريثنا قليلا نجد أن بعض رجال الدين يثيرون الفتن ويلعبون بالسياسة، وان السياسيين يتفرجون، بل يساومون معهم فى مواسم الانتخابات ومن الأمور الملفتة للنظر فى الفتنة الأخيرة أن الذى تصدى لها هو البابا شنودة وشيخ الأزهر حيث أصدرا بيانا مشتركا للتهدئة، وهذا يعنى أننا نعيش فى دولة دينية وليست مدنية، فالسياسيون لم يتحدثوا إلا قليلا، والذين ظهروا فى الإعلام معظمهم رجال دين وعندما تحدث الرئيس حسنى مبارك صمت الجميع إذن فالقضية سياسية من الألف إلى الياء،
فإذا كنا نعيش فى دولة مدنية، فعلى سياسيى وقادة الدولة المدنية أن يضعوا فى المسار السياسى ما يجعل التمثيل السياسى عادلا للجميع، وفى المسار الثقافى عليهم تعميم ثقافة الحوار والتسامح الدينى وفى المسار الاقتصادى ما يحقق عدالة توزيع الثروة وقبل وبعد كل ذلك حضور الدولة العادلة وليس غيابها، وهذا كله عمل سياسى يقوم به الحزب الحاكم أى الدولة، فهى وبلا شك المنوطة بتحرير الدين من السياسة.
إننا نحتاج فى النهاية أن ندرك أن ما حدث فى الآونة الأخيرة فى بلادنا هو نتيجة طبيعية للخلط بين الأمور، الخلط بين الثابت والمتغير، فالوطن ثابت والتاريخ متغير، والخلط بين ما هو سياسى وما هو دينى وبين الحركة الخاصة والاتجاه العام، وبين حق الاختلاف وإدارة التنوع، ولا يوجد حل لهذه المعضلة التى تواجهنا إلا بالاعتراف أنها معضلة سياسية خالصة، فأهل السياسة ومنظروها ومنفذوها عليهم أن يقدموا لنا رؤية بخطه وبرنامج وإستراتيجية فى كيفية فهمهم وإدراكهم وتحركهم لإدارة التنوع فى المجتمع وعلى كل ما عدا ذلك أن يمتنعوا لأن المتدينين ومؤسساتهم والمثقفين وأيديولوجياتهم أطراف وليسوا حكاما يحملون مسئولية المجتمع فى أمنه ورفاهيته.