أين وثائق حرب أكتوبر؟
خالد فهمي
آخر تحديث:
الأحد 14 أكتوبر 2012 - 1:05 م
بتوقيت القاهرة
جاءت ذكرى حرب أكتوبر هذا العام، كما فى العام الماضى، مختلفة عن الأعوام السابقة، فلم تتحفنا وسائل الإعلام بعبقرية الضربة الجوية التى لولاها ولولا قائدها ومخططها لما حققنا هذا الانتصار الساحق.
وكان من مظاهر التغطية الإعلامية هذا العام أيضا اهتمام صحف عديدة، حكومية ومستقلة، بخبر إفراج إسرائيل عن وثائق قديمة تعود لفترة الحرب، وتحديدا لوثائق لجنة أجرانات التى شكلتها إسرائيل بعد الحرب مباشرة للتحقيق فى أسباب التقصير الذى كاد أن يؤدى إلى هزيمتها. واهتمت صحفنا وفضائياتنا تحديدا بالمعلومات التى احتوتها وثائق هذه اللجنة عن أشرف مروان وعن دوره المريب أثناء الحرب، وعن احتمال كونه عميلا مزدوجا.
على أن أيا من هذه الصحف أو الفضائيات لم تنتبه لدلالة هذا الخبر الخطير، فما أراه مثيرا فى هذا الخبر ليس الشك فى أن يكون أشرف مروان، القريب من دوائر صنع القرار وقتها، جاسوسا، بل المثير حقا أننا نستقى معلوماتنا عن هذا الموضوع المهم من دولة أجنبية، بل من الدولة التى كنا نقاتلها فى هذه الحرب. ولم يهتم الصحفيون الذين تكالبوا على نشر تفاصيل الخبر بطرح السؤال البديهى: ما الذى تقوله وثائقنا عن أشرف مروان؟ هل توجد لدينا معلومات «موثقة»، أى معلومات مستندة إلى وثائق رسمية صادرة عن جهة رسمية، كالمخابرات الحربية مثلا، والتى يمكن أن تلقى ضوءا على هذه الشخصية وعلى دورها الغامض أثناء فترة من أهم فترات تاريخنا المعاصر؟
●●●
الأمر لا يقتصر على أشرف مروان وعما إذا كان جاسوسا، والأسئلة لا تقتصر على الدور الحقيقى لحسنى مبارك وعن أهمية الضربة الجوية. الأسئلة المتعلقة بحرب أكتوبر، شأنها شأن الأسئلة المتعلقة بكل حروبنا الحديثة، أسئلة كثيرة لاتزال تبحث عن أجوبة. هل خطط السادات للحرب على أنها حرب تحرير، كما يشاع، أم أنها كانت حرب تحريك، كما يزعم حسنين هيكل؟ وماذا كان موقف قادة القوات المسلحة من سياسات السادات وأهوائه؟ من المسئول عن توسيع الهجوم البرى شرقا يوم 12 أكتوبر دون غطاء جوى، الأمر الذى أدى لخسائر فادحة فى الأرواح والمعدات؟ ما حقيقة النزاع بين الفريق الشاذلى والسادات، وماذا كان موقف الجمسى والمشير أحمد اسماعيل على؟ من المسئول عن الثغرة ولماذا لم يتم استيعابها بسرعة بالرغم من التنبؤ بها؟ هل صحيح أن إسرائيل نجحت، كما تدعى، فى تحويل هزائمها الثقيلة فى الأيام الأولى للحرب إلى انتصارات حاسمة؟ من الذى انتصر فى هذه الحرب، نحن أم إسرائيل؟
●●●
هذه أسئلة قديمة، وهناك العديدون الذين حاولوا تقديم إجابات عليها. على أن كل ما لدينا من كتب ودراسات عن حرب أكتوبر يعتمد إما على شهادات من شارك بالفعل فيها، أو على روايات من شهدها وعاصرها، أو على كلام الصحف والمجلات وغيرها من وسائل الإعلام وقتها. ولكن لا توجد لدينا ولو دراسة واحدة موثقة عن حرب أكتوبر، أى دراسة معتمدة على وثائق رسمية. فالفرق كبير بين أن يسرد الشاذلى مذكراته عن موقفه فى الحرب مثلا، وبين أن نعثر على محضر اجتماع القيادة العامة للقوات المسلحة يوم 13 أكتوبر، مثلا، والذى قد يسجل موقف كل القادة وأقوالهم. وبالمثل، هناك فرق بين أن يقول هيكل أن فلانا وشوشه فى أذنه بسر دفين عن موقف دولة أجنبية ما تجاه السادات، وبين أن نعثر على برقية من سفارتنا فى هذه الدولة توضح موقفها من السادات.
القضية ليست أن الشاذلى قد تخونه ذاكرته، أو أن هيكل قد تكون مصادره الصحفية غير دقيقة. كما أن القضية لا تكمن فى الفرق بين الذاكرة الشخصية التى قد تجذب وقد تتجمل، والذاكرة المؤسسية التى لا تجذب ولا تتجمل. فالوثائق الرسمية قد تجذب هى الأخرى وقد تتجمل. على أن الوثائق المكتوبة التى يجب أن تكون محفوظة ومتاحة للاطلاع والبحث يمكن مراجعتها ودحضها والتأكد من صدقها واكتشاف أماكن صمتها.
أما وقد حُجبت هذه الوثائق ومُنعنا من الاطلاع عليها فلا غرابة إذن أن تأتى كل كتبنا غير موثقة. هذا فى الوقت الذى تفرج فيه إسرائيل عن وثائقها بشكل رسمى ومنتظم، ويذهب مؤرخوها وغيرهم ممن اعتمد على وثائقها المفرج عنها إلى المؤتمرات الأكاديمية يعرضون فيها وثائق جديدة بمعلومات جديدة، أو يقدمون رؤى جديدة لوثائق قديمة، بينما نحن مازلنا ندور فى أماكننا، لا نقدم جديدا، نلوك نفس القصص والروايات.
●●●
هل توجد لدينا وثائق رسمية عن حرب أكتوبر؟ وإذا كان لهذه الوثائق وجود، فأين هى؟ ولماذا لا يفرج عنها ليطلع عليها الصحفيون والأكاديميون وغيرهم ممن يودون التعرف على تاريخ بلدهم؟
أنا لا أشك فى أن لهذه الوثائق وجود، كما لا أشك فى أن لدينا أطنانا من الورق عن الحروب العديدة التى خضناها مع إسرائيل. فجيشنا، كسائر الجيوش المحترفة فى العالم، يعتمد على جهاز بيروقراطى ضخم، وينتج الملايين من الأوراق والوثائق والسجلات كل عام، كما أن لديه أرشيفا ضخما يحفظ فيه هذه الأوراق بشكل منظم محترف.
على أنه ولدواعٍ أمنية لا يتاح للمواطنين الاطلاع على هذه الوثائق، وهذا مفهوم، بل ضرورى، بالنسبة للوثائق الآنية التى تتعلق بأمور الجيش الآن، ومن المنطقى أن تحتفظ هذه الوثائق بصفة السرية. أما ما ليس منطقيا أو ضروريا أو مقبولا هو ألا ترفع صفة السرية عن هذه الوثائق بعد انقضاء فترة زمنية معينة. أغلب المجتمعات الناضجة، مثل الهند وجنوب أفريقيا وتركيا، اعتمدت قاعدة الثلاثين سنة كفترة زمنية تفرج بعدها الدولة عن وثائقها المتعلقة بالأمن القومى، بل أن بعض الدول قررت تخفيض هذه المدة لعشرين عاما (بريطانيا مثلا).
أما نحن فما زال المنطق الأمنى القاصر مهيمنا على وثائقنا، وبالتالى متحكما فى رؤيتنا لتاريخنا وفهمنا له. وأقول «القاصر» لأن لدى يقينا بأن هذا المنطق الأمنى الذى يبغى حماية الأمن القومى يضر، فى الحقيقة، بالأمن القومى. فكان من نتيجة حجب الوثائق العسكرية عن حروب خضناها منذ أربعين سنة أو يزيد أن انعدمت الدراسات التاريخية الموثقة، وتشبعت السوق بكتب ودراسات أكاديمية مبنية على وثائق إسرائيلية (أو أمريكية وسوفييتية وفرنسية وبريطانية)، ونشأ جيل من المصريين يستقون معرفتهم عن تاريخ بلدهم من العدو، والكثير منهم يشكك فيما يقرأه فى المدرسة وما يطالعه من كتب اشتراها على الرصيف.
●●●
لقد صرح وزير الثقافة مؤخرا أن الوزارة انتهت من إعداد مشروع قانون للوثائق يلزم جميع الوزارات والجهات السيادية، بما فيها رئاسة الجمهورية ووزارة الدفاع والمخابرات العامة، أن تودع ما لديها من وثائق قديمة لدار الوثائق القومية. وتلك بالطبع خطوة محمودة ولا شك فى أن هذا القانون ضرورى ومفيد، إلا أنه إن لم يصاحبه قانون آخر لحرية تداول المعلومات فسنكون كمن قبل بنصف العمى ولا العمى كله. ولكن هذا لا يكفى، فشعبنا يستحق أن يكون بصيرا بتاريخه وأن يكون له الحق فى الاطلاع على مصادر تاريخه كلها دون تقييد أو مواربة. فعندها، وعندها فقط، نكون قد ساعدنا فى الإجابة على أسئلة تحير شبابنا، ونكون عملنا على تنشئة المواطن الواعى، المطلع على تاريخه، والملم بمصادره. ذلك المواطن هو خير ذخيرة للأمن القومى وهو خير مدافع عن الوطن وترابه. أما حجب المعلومات التاريخية باسم الدفاع عن الأمن القومى، فهو، فى الحقيقة، يهدد الأمن القومى ولا يحميه.