العجز الديمقراطى وإشكالات الحاضر
علي محمد فخرو
آخر تحديث:
الأربعاء 14 أكتوبر 2020 - 10:15 م
بتوقيت القاهرة
تظهر الكثير من الدراسات فى بلدان الغرب الديمقراطية بأنه كلما تراجعت مؤسسات ومسيرة الديمقراطية فى تلك البلدان كلما ازدادت وتراكمت مشاكلهم الاجتماعية والاقتصادية والسياسية على المستويين الوطنى والدولى.
لقد بدا واضحا ومقلقا للكثير من مفكريهم بأن الثقافة النيوليبرالية الرأسمالية، التى مجدت الفردانية المتطرفة المنغلقة على الذات والمتعة والاستهلاك النهم، قد قادت إلى هبوط حاد فى نسبة المواطنين المشاركين فى الانتخابات، وإن استبعاد كلمات وتعابير السياسة الكلاسيكية، من مثل المساواة والعدالة الاجتماعية والنضال المدنى وحقوق الفقراء والمهمشين وغيرها، فى مجالات السياسة والإعلام والتعليم على الأخص، وإحلال تعابير رأسمالية السوق، من مثل المنافسة والاستهلاك المظهرى العبثى والمكانة المالية وتعابير الموضة والإعلان والعيب فى الفشل وغيرها، قد أزاح السياسة، ومعها الالتزامات نحو المجتمع والناس، وأحل مكانها الاقتصاد كحاكم ومهيمن على كل مجالات الحياة، وأن صعود اليمين الشعبوى المتطرف فى أوروبا وأمريكا سينقل الديمقراطية من كونها وسيلة أخذ وعطاء وحلول تأخذ بعين الاعتبار مصالح كل فئات المجتمع إلى كونها وسيلة استقطابات حادة لا تتورع عن الاستعمالات الانتهازية للتنوع الدينى أو العرقى أو الثقافى فى صراعات مميتة، كما هو الحال فى المشهد الأمريكى الانتخابى الحالى وتصرفات الرئيس دونالد ترامب.
من هنا فإن المفكرين فى الغرب ماعادوا يتكلمون عن أمراض ومثالب الديمقراطية المعروفة، وإنما يتكلمون بصوت عالٍ وجل عن موت الديمقراطية فى الغرب.
فإذا كان التراجع الديمقراطى فى البلدان الديمقراطية يهدد بانفجار المشكلات والصراعات فى تلك البلدان، فإن المشهد فى الوطن العربى يظهر صورة أخرى لنفس المشهد: غياب وعجز الديمقراطية فى بلاد العرب هو أحد أهم أسباب التراجع المتسارع فى كل مناحى الحياة العربية. فقرارات إعلان الحرب أو الدخول فى سيرورة سلام، أو الزج بالنفس فى الصراعات الداخلية فى هذا القطر العربى أو ذاك، أو معاداة ومحاولة إسقاط هذا الرئيس العربى أو ذاك، أو دعم هذه الجماعة الجهادية العنيفة بالسلاح والمال والتدريب أو تلك، أو الانكفاء نحو الوطنية القطرية الضيقة والابتعاد عن القومى المشترك، أو دعم المؤسسات العربية القائمة أو إضعافها، أو الأمر بالدخول الإعلامى القطرى فى مماحكات وولائم شتم بذىء وإيقاظ العداوات المصطنعة بين هذا الشعب العربى أو ذاك وإشعال النيران الجنونية فى وسائل التواصل الاجتماعى، أو دعوة الاستعمار للعودة إلى أرض العرب فى شكل معسكرات وموانئ ومعاهدات واتفاقات سرية.. جميع ذلك يتم بقرارات من قبل مجموعات صغيرة متحكمة، بعيدا عن السلطات التشريعية إن وجدت وعن المداولات فى مجالس الوزراء وعن المداولات الحرة الاستطلاعية من قبل الرأى العام، وبمعنى آخر يتم كل ذلك، وأكثر من ذلك فى أمور من مثل الاقتصاد والمديونيات والثقافة والتعليم والصحة وتوزيع الثروة وكل مناحى حياة المواطن المهمش، بسبب غياب المؤسسات الديمقراطية المراقبة والمحاسبة والمعاقبة، أى العاجزة المشلولة.
وبالطبع فإن غياب المؤسسات الديمقراطية فى بلاد العرب سببه ظاهرة العجز الديمقراطى فى هذا الوطن العربى كله، بصور متفاوتة.
من هنا الأهمية الكبرى لدراسة خلفيات وأسباب ذلك العجز والتوجه لمعالجة مشكلة العجز والتغلُب عليها، وذلك قبل التغنى بميزات الديمقراطية وإظهار محاسنها لمجتمعات لم تذق طعمها منذ قرون.
بالنسبة لبعض الأدبيات العربية فى الشأن الديمقراطى أشار الكثيرون إلى الأسباب التالية وراء ذلك العجز الديمقراطى.
أولا: وجود نفوذ استعمارى دولى وإقليمى راغب فى حكم بلاد العرب قبل أنظمة أوتوقراطية استبدادية غير مراقبة وغير خاضعة لمجتمع مدنى فاعل.
هذا النفوذ كان ولا يزال داعما لأنظمة غير ديمقراطية طالما أنها تخدم أو لا تتعارض مع مصالحه الاقتصادية والأمنية. هذا النفوذ الاستعمارى لا يهمه بقاء هذا النظام العربى أو ذاك طالما أن الجدد هم من صنف القدماء فى تسلطهم وفسادهم.
يخطئ من يعتقد أن معركة مقارعة الاستعمار انتهت باستقلال البلاد العربية. الاستعمار لا يزال موجودا والمعركة ضده ودحره لا تزال مستمرة.
ثانيا: إصرار الدولة العربية الحديثة على أن تبقى دولة ريعية فى الاقتصاد؛ حيث تستولى أقلية على مصادر الثروات، وعلى الأخص الطبيعية منها، كالثروة النفطية والغازية والمعدنية، لتوزع دخل تلك الثروة الريعية حسب الولاءات الزبونية من جهة وإجراء مقايضة بين توزيع الثروة الريعية واستعمال جزء منها فى تقديم خدمات اجتماعية كالصحة والتعليم والإسكان، وبين القبول العام لغياب الديمقراطية.
هنا أيضا ما لم تنجح قوى المجتمعات المدنية فى تغيير طبيعة الدولة العربية الريعية لتصبح دولة اقتصاد إنتاجى غير زبونى فإن الديمقراطية لن تأتى. فالتاريخ والعادات والسلوكيات التى بناها ذلك التاريخ ستكون عقبات أمام أى تحول ديمقراطى.
ما سيجعل بناء الديمقراطية فى بلاد العرب أصعب من ذى قبل هو تغير المشهد الديمقراطى فى الديمقراطيات العريقة. سيأخذ أعداء الديمقراطية فى بلاد العرب ذلك المشهد كدليل على فشل الديمقراطية، وبالتالى عدم الحاجة للديمقراطية فى بلاد العرب.