طوفان الأقصى.. عن نظام دولى متصدع وفى طريقه للانهيار!
أحمد عبدربه
آخر تحديث:
السبت 14 أكتوبر 2023 - 8:15 م
بتوقيت القاهرة
فور اندلاع أحداث السابع من أكتوبر الحالى وهى التى أطلقت عليها حركة المقاومة الإسلامية (حماس) عملية «طوفان الأقصى» دخل الشرق الأوسط رسميا فى مرحلة جديدة من تاريخ صراعاته، وهى فى رأيى مرحلة مفصلية لا تقل أهمية مثلا عن حرب أكتوبر ١٩٧٣ أو اتفاق أوسلو للسلام ١٩٩٣ أو اندلاع الانتفاضة الفلسطينية الثانية (٢٠٠٠ــ٢٠٠٤) ، والمقصود بالأهمية هنا أنها نقطة فاصلة فما سيأتى بعدها إقليميا ودوليا من أحداث ستغير من خارطة توازنات القوى فى المنطقة بخصوص القضية الفلسطينية تماما كما كانت الحال بعد اتفاقية أوسلو أو الانتفاضة الفلسطينية.
فى كل الصراعات الدولية، يصور الساسة لشعبوهم أن العملية صفرية، سحق تام للطرف الآخر وانتصار نهائى للذات، هذا مهم لأن السياسى هدفه تجييش كل الطاقات خلفه والحصول على دعم غير مشروط من جماهيره، ولهذا فدعاية الحرب تكون على أشدها، رئيس الوزراء الإسرائيلى يتحدث عن سحق تام لحماس، وتغيير غزة، والانتصار الساحق لجيشه، لكن قراءة مبسطة للتاريخ، تخبرنا بالنتيجة، لا حسم للصراعات الدولية بشكل صفرى، وعادة ما تنتهى الأمور على مائدة التفاوض! بالعودة إلى عملية طوفان الأقصى، والرد الإسرائيلى عليها، وباستخدام القراءة التاريخية للصراع منذ الانتداب البريطانى على فلسطين التاريخية بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى، يمكن توقع السيناريو التالى: بعد إراقة الدماء وتشريد البشر وإزهاق الأرواح، سيجلس الجميع على مائدة التفاوض، إما بشكل مباشر أو عبر وسطاء، لا حلول صفرية، حتى لو طال أمد الحروب! ولأن المفاوضات لا تجرى فى الفراغ، فيسعى كل طرف إلى الحصول على أكبر قدر من المكاسب على الأرض قبل هذا التفاوض حتى يجد أكبر عدد من الكروت الممكنة لاستخدامها أثناء هذا التفاوض!
فى ١٩٧٣، كان يعلم الرئيس السادات ذلك تماما! فلسفه عبدالناصر، كان يرفع السقف لأقصى درجة ممكنة، ورغم هذا السقف المرتفع للشعارات والسياسات، لم يتمكن عبدالناصر من تحرير فلسطين، بل وخسر عبدالناصر حرب ١٩٦٧ ليفقد هو وتفقد الدول العربية معه المزيد من الأراضى بما فيها القدس، وسيناء، والجولان وغيرها! فهم السادات الدرس جيدا، كان سقفه محددا وواقعيا، استعادة سيناء عن طريق تحريك الحقائق على الأرض، اقتحام خط بارليف والتقدم نحو شبه الجزيرة المحتلة ثم التوقف عندما لزم الأمر للتفاوض! لو كان السادات تفاوض من موقعه عندما تولى السلطة فى ١٩٧٠ دون خوض حرب أكتوبر لما كان أحد نظر إليه أو أخذ ما يقوله باهتمام!
كذلك كانت، وستظل، الحال بالنسبة لحركة التحرير الفلسطينية بقيادتها المختلفة، انتقلت من المقاومة إلى السلام مستغلة بعض المكاسب على الأرض، وفى مقدمتها الانتفاضة الفلسطينية الأولى (١٩٨٧ــ١٩٩٠)، وانهيار الاتحاد السوفيتى، فتحولت إلى مائدة المفاوضات لتحصل على الاعتراف الرسمى من المجتمع الدولى وفى المقابل تقدم الاعتراف بإسرائيل!
وحتى حركة حماس، فبمقارنة ميثاقها السياسى عام ١٩٨٨ وميثاقها السياسى المعدل عام ٢٠١٧ يمكن رؤية بعض التغييرات الجوهرية مثل القبول بدولة فلسطينية على حدود ١٩٦٧ (الضفة الغربية، غزة، القدس الشرقية)! إذا، فنحن أمام تحريك جديد على الأرض، هدفه تغيير موازين القوة نحو إعادة القضية الفلسطينية وحق شعبها العادل فى تقرير المصير إلى الوجهة العالمية بعد سنوات طويلة من التجاهل!
• • •
لن تؤدى عملية طوفان القدس إلى زوال دولة إسرائيل، ولا إلى تحرير القدس، على الأقل فى الأجل المنظور، كما لن تتمكن إسرائيل من القضاء على حماس تماما، ولكنها ستؤدى بكل تأكيد ــ إن لم تكن قد أدت بالفعل ــ إلى إدراك المجتمع الدولى، أنه لا يمكن فقط بفرض سياسة الأمر الواقع من الجانب الإسرائيلى مستغلا التجاهل والعجز الدولى، أن توفر السلام لدولة إسرائيل أو لشعبها! عملية طوفان الأقصى وما احتوته من تطوير نوعى معقد فى نظم الحرب ومخادعة المخابرات الإسرائيلية ونظمها الدفاعية والاستباقية، أكدت أن حركة حماس تفرض واقعا عسكريا جديدا على إسرائيل، سيكون من الصعب تجاهله أو نسيانه لسنوات قادمة!
ستغير عملية طوفان الأقصى من القناعة الدولية التى سربتها إسرائيل وحلفاؤها فى الغرب إلى المجتمع الدولى، وهى القناعة القائلة بأن الحل الاقتصادى للفلسطينيين عن طريق توفير بعض فرص العمل والبنية التحتية وإعطاء قدر من حرية الحركة فى غزة والضفة مع نسخة مشوهة وباهتة من الحكم الذاتى قادر على الصمود باعتباره حلا سيرضى به الفلسطينيون وسينسون حقهم فى إقامة دولة مستقلة ذات سيادة!
ستغير عملية طوفان الأقصى من حالة البلادة والبرود التى أصابت عواصمنا العربية تجاه القضية الفلسطينية، وستضع ضغطا على صناع القرار فى الدول العربية التى تقيم علاقات دبلوماسية كاملة مع إسرائيل على استخدام هذه القنوات الدبلوماسية للضغط على دولة إسرائيل لتقديم تصور مختلف لأوضاع الشعب الفلسطينى السياسية والإنسانية!
على عكس ما يبدو فى الأفق، فإن عملية طوفان الأقصى ستغير أيضا من هذه القناعة الساذجة بأنه يمكن التخلص من القضية الفلسطينية عن طريق تحويل كل الفلسطينيين والفلسطينيات إلى لاجئين فى الدول المجاورة! لا وطن لفلسطين فى سيناء ولا فى غير سيناء، هذا هو القرار الفلسطينى قبل أن يكون القرار العربى أو الأممى، فمزيد من الدماء الفلسطينية سيعنى المزيد من التمسك بالأرض لا بتركها! والحقيقة، أن الغالبية العظمى من سكان غزة هم فى الأصل من المهجرين قسرا إليها من الأراضى الفلسطينية التى احتلت منذ قيام الدولة الإسرائيلية فى ١٩٤٨، وهو ما يعنى أنه لو تحرك أهل غزة فإن ذلك لن يكون نحو مصر، ولكنه سيكون نحو أراضى أجدادهم وهو أمر لم ولن تتحمله إسرائيل ولا المجتمع الدولى فى كل الأحوال!
• • •
هذه التغيرات كلها ستكون بتكلفة عالية بكل تأكيد، ولكنها قادمة لا محالة! لكن ما هى التكلفة المتوقعة؟
المجتمع الدولى والذى تسيطر عليه عواصم العالم الغربى بمؤسساتها السياسية والاقتصادية والإعلامية قرر فرض التعاطف مع إسرائيل باعتباره مرادفا للتحضر والتقدم والرقى، واعتبار المواقف الداعمة لفلسطين إما مجرمة لأنها ترادف التعاطف مع الإرهاب، أو مشكوك فى صحتها باعتبارها منحازة ضد الإنسانية! ومن ثم فإن هذا المجتمع الدولى لن يكون فى مقدوره ولا فى رغبته أو نيته السياسية تقديم أى دعم إنسانى حال قيام إسرائيل باجتياح برى شامل أو محدود لغزة! ورغم أن ما تقوم به إسرائيل من فرض للحصار الشامل على غزة بما فيه منع المدنيين والمدنيات فيها من الحصول على الطعام والشراب والدواء هو جريمة حرب بأى معيار دولى، إلا أن العواصم الغربية قررت السكوت والتجاهل أو حتى فى بعض الأحيان تقديم التبريرات، ومن ثم فإن التكلفة المباشرة لهذه التغييرات المحتملة هو سفك دماء الفلسطينيين دون تفرقة بين مدنى أو مسلح، سيدة أو طفل أو عجوز!
هناك مجزرة تلوح فى الأفق وهى بالحسابات الإسرائيلية الرد الوحيد المناسب لإعادة الثقة فى الدولة ومؤسساتها! يعلم الإسرائيليون أن تصفية حماس والقضاء عليها بشكل نهائى هو أمر غير ممكن، كما أنهم يعلمون أن الحصول على الرهائن أحياء عن طريق تحريرهم بعملية عسكرية شاملة هو أمر غير محتمل، قد تكون هذه كلها أهداف معلنة من الجانب الإسرائيلى، لكن الهدف الحقيقى هو الانتقام العشوائى لحفظ الكبرياء ولا شىء غيره! لكن تكلفة هذا الانتقام لحفظ الكبرياء الإسرائيلى سيكون عالى التكلفة على النظام الدولى برمته!
فإذا استمرت الدول الغربية فى موقفها الحالى دون تغيير من استهداف القطاع وتجويعه والتعامل مع الفلسطينيين والفلسطينيات كحيوانات محبوسة فى قفص غزة، فإن التكلفة لن تكون فقط فى فلسطين، ولكنها ستكون فى شكل انفجارات مدوية على جميع الأصعدة فى الشرق الأوسط وخارج الشرق الأوسط، فمزيد من العنف والدماء والحروب الأهلية والإرهاب سيكون فى انتظار هذا النظام العالمى المعطوب بشكل قد يقودنا إلى حروب قد تتخطى المنطقة وقد تصل إلى ما يشبه حرب عالمية ثالثة بدون أى مبالغات ولهذا حديث لاحق!