الانتفاضة اللبنانية.. المتظاهرون مقابل السلطة
مواقع عربية
آخر تحديث:
الخميس 14 نوفمبر 2019 - 2:25 ص
بتوقيت القاهرة
نشر موقع درج مقالا للكاتب حازم الأمين ونعرض منه ما يلى:
فى مقابل «قلة التهذيب» التى وصف بها سياسيون لبنانيون المتظاهرين فى بلدهم، والمتظاهرون كانوا فعلا قليلى التهذيب، أبدى السياسيون «قلة ذكاء» مبهرة أيضا. «قلة تهذيب» فى مقابل «قلة ذكاء». التظاهرة فى أحد وجوهها كانت منافسة بين هاتين القلتين، وفى الوقت الذى شكلت فيه «قلة التهذيب» مناسبة لتجاوز التهذيب الذى تفرضه سلطة فاسدة، كانت «قلة الذكاء» صورة عن صدأ خطاب هذه السلطة، وعجزها عن تجديد خطاب توارى به فسادها وفشلها.
التظاهرة كشفت أن «التهذيب» لم يكن أكثر من حاجة السلطة إلى مراوغة المواطنين. كانت هذه الوظيفة الرئيسية للتهذيب، ولهذا بدا أن «الشتيمة» كانت السلاح الأول للمتظاهرين. لم يكن بأيديهم سلاح آخر. فكيف يمكن أن تواجه سياسيا يريدك أن تصفق له لأنه كشف سرا بحجم أن الحرائق لا تصيب إلا غابات المسيحيين؟ أو وزيرا قرر أن يستوفى منك رسما على محادثة «واتساب»؟ فأنت هنا أمام صفاقة لا يصمد أمامها تهذيب أو مواراة. لكنك أيضا أمام غباء جعل يتخلل الصفاقة ويمتزج معها ليؤلف مركبا أخرج من التظاهرة جيلا لم يسبق أن اختبر خطوط الانقسام التى لطالما حصنت الفاسدين البلهاء من سياسيينا، وهو، أى هذا الجيل، لا يشعر بأنه مضطر لأن يختبر خطوط انقسام لا تعنيه.
الشتيمة هنا ليست «قلة تهذيب»، إنما مؤشر موازٍ أيضا. هى تحدٍ لنظام «التهذيب»، ذاك أن الفساد أنشأ منظومته النفسية واللغوية التى وجب تحطيمها فى التظاهرة. الحرب فى التظاهرة كانت على لغة الفساد، وعلى تهذيبه وعلى تحويله الكلام إلى عملية تورية متواصلة.
بالأمس، امتدت الخطب حتى آخر الليل. افتتح يوم الخطب حاكم المصرف المركزى رياض سلامة واختتمه النائب إبراهيم كنعان باسم «تكتل لبنان القوى»! وكنعان هذا شرع يستغيث من شرور التظاهرة التى لا تريد أن تصدق أن الكتلة العونية هى من حمل لواء مكافحة الفساد منذ يومها الأول فى البرلمان. هل يعقل ألا يصدق المتظاهرون هذا؟ فلدى الرجل مئات الوثائق التى تثبت ذلك! هذه هى اللغة المحصنة بالتهذيب، وشديدة التماسك التى قررت السلطة مواجهة المتظاهرين بها. هذه هى الأجوبة على أسئلة التظاهرة، وعلى شتائمها. يوم الاثنين، كان يوم أجوبة السلطة ويوم هلعها، ويوم كشفها عن منسوب ذكائها وفسادها.. وتهذيبها.
رئيس مجلس النواب نبيه برى بدأ محاربة الطائفية منذ عام 1963، وأمين عام «حزب الله» حسن نصر الله استبشر خيرا بـ«الحراك»، ذاك أنه سيصوب أى خطط فساد فى المستقبل، وحاكم المصرف طمأن الناس على ودائعهم! والغريب فى نهار العرض المتلفز هذا أن أحدا لم يلتقط من لغة التظاهرة إلا «قلة تهذيبها»، ولم يلفته فيها ما خلفته فى عبارته من عجزٍ وقصور. لم يلاحظ أمين عام «حزب الله» أن طرابلس نزعت صور السياسيين، ولم يشعر إبراهيم كنعان بأن «تكتل لبنان القوى» هو السلطة، وأن الفساد، الذى يريد من المتظاهرين أن يقفوا خلف تكتله لمحاربته، وصل إلى ذروته حين وصل تكتله إلى الحكم.
الشتيمة هنا ليست «قلة تهذيب»، إنما مؤشر موازٍ أيضا. هى تحدٍ لنظام «التهذيب»، ذاك أن الفساد أنشأ منظومته النفسية واللغوية التى وجب تحطيمها فى التظاهرة. الحرب فى التظاهرة كانت على لغة الفساد، وعلى تهذيبه وعلى تحويله الكلام إلى عملية تورية متواصلة. لكى تحصل على تعويضك فى الضمان الاجتماعى عليك أن تلجأ إلى مسئول فاسد ومهذب تدفع له أجور تسريع المعاملة، ولكى تُخرج حاوية وصلتك إلى مرفأ بيروت، عليك أن تعتمد على «مخلص معاملات» بالغ التهذيب وبالغ النفوذ وبالغ الفساد.
علينا هنا أن نسترجع صور الفاسدين فى نظام حياتنا اليومى. هل سبق أن صادفت فاسدا غير مهذب؟ قلة تهذيبه ستفضحه، فيما التهذيب سلاح ضرورى ليسرق منك أكثر. وعلى هذا النحو، نشأت لغة وجب تكسيرها، وهذه اللغة تحولت إلى لغتنا كلنا نحن جيل الانقسام والتسليم بهذا التوازن، وجيل الخائفين من السلطة ومن السلاح ومن غضب الفاسدين. وفى هذا الوقت، كان جيل آخر يتشكل فى غفلة منا، تماما كما فى غفلة من الطبقة التى تحكمنا. جيل لا يشعر بأنه معنى بأن يكون مهذبا، وأن الخلل الطفيف وغير الطفيف تجب مواجهته بإحداث خلل مواز فى منظومته وفى لغته، وهنا ظهر فارق كشف هشاشة خطاب التهذيب، وهذا تماما ما لم يستوعبه خطباء يوم الاثنين، فهؤلاء توجهوا إلى من سبق أن خضعوا لسلطة «تهذيبهم»، توجهوا إلينا نحن الذين اندرجنا فى انقسامهم، وقبلنا أن نكون قطعانا فى 8 و14 آذار.
بالأمس كنا نحن المُخَاطبين، بينما كانت التظاهرة فى مكان آخر تماما. نحن الذى لم يسبق لنا أن نجحنا فى منع انعقاد جلسة لمجلس النواب، وكنا حين تنهال العصى على رءوسنا نعود إلى منازلنا ونقبل بحقيقة أننا الأضعف. أما متظاهر اليوم فهو غير معنى بخوفنا. انهالت العصى على رأسه، لكنه ما لبث أن عاد إلى الساحة، وعطل الجلسة النيابية ولم يستمع إلى خُطب الرؤساء.
النص الأصلى