أخى جاوز الظالمون المدى

محمد عبدالمنعم الشاذلي
محمد عبدالمنعم الشاذلي

آخر تحديث: الخميس 14 نوفمبر 2024 - 7:20 م بتوقيت القاهرة

كلما استمعت إلى عبدالوهاب وهو يشدو «أخى جاوز الظالمون المدى» تأملت الكلمات وتسألت: من هم الظالمون؟ هل هم الصهاينة أم بريطانيا دولة الانتداب، أم الأمم المتحدة التى كلفتها بالانتداب، أم هو اللورد بلفور صاحب الوعد المشئوم؟ لعل كلهم ظلموا فلسطين وشعبها ظلما فاجرا، ولكن أضيف إلى قائمة الظلمة بعض العرب الذين - إلى يومنا هذا - يرمون بأن الشعب الفلسطينى فرط فى حقه وباع أرضه وأنه سبب مصائب كثيرة حلت بالعرب.
ظلم شديد ورؤية قاصرة مشوهة. تمر علينا خلال شهر نوفمبر الجارى ذكرى مرور أكثر من مائة عام على صدور وعد بلفور الذى وصفه المؤرخون بأنه عطاء من لا يملك لمن لا يستحق. يؤرخ قطاع كبير من الناس بهذا الوعد المشئوم كبداية للقضية الفلسطينية، وهو تاريخ مضلل، فالقضية بدأت قبل ذلك بكثير فى منتصف القرن الـ 19 بهروب وهجرة أعداد كبيرة من يهود روسيا وأوروبا الشرقية فى أربعينيات وخمسينيات القرن فرارا من بطش النظام القيصرى الروسى.
• • •
لكن لماذا توجهت هذه الجموع المهاجرة إلى فلسطين؟ السبب أن تركيا كانت العدو التقليدى لروسيا ووجهت اليهود إلى فلسطين ليخلقوا المتاعب لتركيا، فضلا على أن تركيا فى هذا الوقت كانت قد وصلت إلى درجة من الضعف تجعل فرض الأمر الواقع عليها سهلا. ويكفى الرجوع إلى مذكرات الجنرال الألمانى، ليمان فون ساندرز الذى جلبته تركيا لتنظيم جيشها التى توضح الدرك الذى وصلت له: إفلاس مالى، ورقابة إنجليزية فرنسية على ماليتها، وجنرال ألمانى يدرب وينظم الجيش التركى، وظابط بحرى بريطانى ينظم البحرية والأسطول، وضابط فرنسى ينظم الشرطة!
تزايد نسبة اليهود فى فلسطين بشكل كبير وقفزت نسبتهم من السكان من 2% فى منتصف القرن 19 إلى 10% فى بداية القرن 20. لكن قبل أن ينتهى القرن الـ 19 حدث تطور هام وخطير وهو عقد المؤتمر الصهيونى الأول برئاسة تيودور هرتزل فى مدينة بازل السويسرية فى أغسطس من عام 1898، وهو المؤتمر الذى أفصح لأول مرة عن إقامة وطن لليهود فى فلسطين بعد أن كانت الفكرة تفاضل بين الأرجنتين وأوغندا وفلسطين. وبدأ مع هذا المؤتمر النشاط المؤسس للحركة الصهيونية وتعبئة يهود العالم خلفها، ومن ثم بدأ النشاط التأسيسى للدولة اليهودية قبل صدور وعد بلفور.
• • •
جاءت الحرب العالمية الأولى وتشكل الفيلق اليهودى بمبادرة من غلاة الصهاينة فلاديمير جابوتنسكى وبنحاس روتنيج حتى يتلقى شباب اليهود التدريب العسكرى والقتالى. وكانت كوادر الفيلق حيوية أثناء حرب فلسطين وفى أعمال الإرهاب الصهيونية بعدها.
كان وعد بلفور الذى صدر فى عام 1917 فى وقت كانت بريطانيا منهكة من الحرب وتريد أن تتعلق بأى قشة لتخرج من أزمتها، فأعطت اليهود وعد بلفور للفوز بأموال أل روتشيلد وفى المقابل أعطت الشريف حسين وعدا بمملكة عربية لحثه على الانشقاق على الدولة العثمانية وفتح جبهة جديدة تخفف الضغوط عليها فى المسرح الأوروبى.
تابعت المنظمة الصهيونية الوعد بعد أن نفذت إلى أعلى مستويات السلطة البريطانية، إذ كان رئيس الوزراء لويد جورج محاميا للمنظمة واللورد روتشيلد بأمواله ووايزمان القريب من الجيش بسبب إسهاماته العلمية. أما الشريف حسين فظل يمنى نفسه بالملك حتى بعد افتضاح اتفاق سايكس بيكو ووعد بلفور، واستمر ابنه فيصل بعد المعاملة المهينة التى لقيها بخلعه من عرش سوريا وإجلاسه على عرش العراق.
• • •
بنهاية الحرب وهزيمة الدولة العثمانية استمر العرب فى سذاجتهم البلهاء ببناء الأمل على نقاط الرئيس الأمريكى ويلسون الأربع عشرة، حق الشعوب فى تقرير المصرير، وفى المنظمة الدولية الجديدة عصبة الأمم، فإذا بالمنظمة بدلا من إلغاء الاستعمار تجمل وجهه بمسمى جديد، هو الانتداب، ووضعت فلسطين تحت الانتداب البريطانى. ويتدفق على فلسطين، بتشجيع من دولة الانتداب، طوفان من المهاجرين اليهود وساد فى هذا الوقت القول الفاجر، الذى رددته الدوائر الصهيونية والإمبريالية، أرض بلا شعب لشعب بلا أرض. وينكشف زيف هذا القول إذا علمنا أن فلسطين التى تبلغ مساحتها 27 ألف كيلومتر مربع ويسكنها 750 ألف مواطن تبلغ كثافة السكان بها 27 نسمة فى الكيلومتر مربع، فى حين أن كثافة السكان فى كندا هى 4 فى كل كم مربع.
ازداد شعور الشعب الفلسطينى بالخذلان من عصبة الأمم ومن الولايات المتحدة التى أطلقت نقاط ويلسون الأربعة عشر، خاصة بعد فشل لجنة كينج – كراين التى زارت البلاد فى عام 1919 واتضح أنها استسلمت لقرارات سايكس بيكو ووعد بلفور. فكانت ثورتهم الأولى عام 1922 بعد صدمة الانتداب والحكم البريطانى، وأصدرت بريطانيا كتابها الأبيض الأول الذى حرره وزير المستعمرات، ونستون تشرشل الذى أكد فيه على التزام بلاده بوعد بلفور مع سطور لطمأنة غير اليهود فى فلسطين على وضعهم. وكانت الهبة الكبيرة ثورة البراق سنة 1929 لحماية المسجد الأقصى من اليهود المتوافدين على حائط البراق وأعمالهم الاستفزازية. وقاد الثورة عزالدين القسام الذى نشط فى تدريب الكوادر المسلحة لحماية فلسطين حتى استشهد فى شهر نوفمبر عام 1935 بعد أن حاصره الجنود الإنجليز فى جنين.
أدى الغضب من مقتل القسام إلى تفجير ثورة 1936 وتشكيل اللجنة العربية العليا، فضلا عن اللجنة الوطنية للجهاد لتوفير التمويل والدعم اللوجيستى الجماهيرى، وجمعية الدفاع عن فلسطين. وضمت اللجان فى عضويتها مسلمين ومسيحيين كاثوليك وبروتستانت وأرثوذكس، وسقط فى الثورة، التى استمرت من عام 1936 حتى عام 1939، 5 آلاف قتيل و15 ألف جريح إضافة إلى إعدام 120 ثائرا ونفى عدد كبير من الفلسطينيين. واستخدمت بريطانيا سلاحها التقليدى فرق تسد، فتم اجتذاب الرجل الثانى فى التنظيمات الفلسطينية راغب النشاشيبى، واستخدموا فى ذلك الخلافات التقليدية بين عائلة النشاشيبى وأسرة مفتى القدس أمين الحسينى. وسلك راغب النشاشيبى مسلكا مشينا بتشكيله كتائب السلام أو عصابات السلام كما سماها الفلسطينيون، التى ضمت المنتفعين من الاستعمار البريطانى والمستوطنات اليهودية، لتحارب معهم ضد الفلسطينيين.
وبسبب ثورة 1936 وتخوف بريطانيا من استمرار الاضطرابات مع خطر اقتراب الحرب فأصدرت، فى عام 1939، ورقة بيضاء جديدة فى محاولة لإرضاء الفلسطينيين، أو بمعنى أدق التدليس عليهم، فحددت المهاجرين اليهود بـ 75 ألف خلال 5 سنوات! ثم كانت الحرب العالمية الثانية واستغلها الصهاينة فى إعداد كوادر عسكرية مدربة عن طريق الفيالق اليهودية، كما استغلت أسطورة المحرقة لاستمرار التعاطف مع اليهود وإشعار العالم بالذنب تجاههم وضرورة إخراجهم من أوروبا إلى وطن لهم، فضلا عن استغلال لقاء مفتى القدس أمين الحسينى مع هتلر لإدانة الفلسطينيين.
وبنهاية الحرب قدمت الدولة اليهودية على أنها الإنصاف الإلهى لليهود والعقاب لمن ظلمهم. وتأسست الأمم المتحدة ولقى الفلسطينيون منها من الظلم ما لاقوه من عصبة الأمم، فصدر قرار تقسيم فلسطين فى عام 1947 من الجمعية العامة. وكانت الأمم المتحدة فى هذا الوقت تمثل الغرب الإمبريالى، باستثناء الاتحاد السوفيتى الذى يقف معزولا فى المنظمة الدولية، وحتى العضو الآخر الدائم فى مجلس الأمن كان الصين الوطنية صنيعة الولايات المتحدة، وفى وقت كان عدد الأعضاء 51 عضوا، ولم تستقل بعد الدول الإفريقية التى كانت خاضعة للاستعمار.
صوتت الجمعية العامة، فى يوم 29 نوفمبر 1947، على قرارها الظالم بتقسيم فلسطين الذى وافق عليه 33 دولة هى الدول الإمبريالية الأوروبية وجمهوريات الموز ودول أمريكا اللاتينية الدائرة فى فلك الولايات المتحدة ورفضته الدول العربية وإثيوبيا وأفغانستان والهند وباكستان وإيران وامتنعت بريطانيا صاحبة الانتداب ووعد بلفور وتركيا التى أرادت تأكيد علمانيتها وولائها لحلف الناتو التى انضمت إليه.
إعرابا عن الرفض الفلسطينى للقرار تشكل جيش الإنقاذ من المتطوعين العرب والمسلمين بقيادة شخصية عسكرية وقومية وهو فوزى القاوقجى السورى، الذى تخرج فى الكلية العسكرية العثمانية، ثم درس فى أكاديمية سان سير العسكرية الفرنسية، وشارك فى حرب البلقان والحرب العالمية الأولى ضد الإنجليز فى فلسطين والعراق، ثم مع فيصل فى الثورة العربية. وتوافد المتطوعون وكان أشهرهم من مصر أحمد عبدالعزيز ومعروف الحضرى وحسن فهمى عبدالمجيد لكن رغم بسالتهم لم يكن لهم فرصة أمام جنود الفيالق اليهودية الذين تمرسوا فى الحرب العالمية الثانية وأمام الأسلحة التى زودتهم بها بريطانيا.
• • •
لعل من المؤشرات على الدعم الذى لقيه الجانب الصهيونى أن من بين 607 طيار فى الطيران الصهيونى كان 414 منهم متطوعين من أوروبا وأمريكا، وبعد أن فقد جيش الإنقاذ والمتطوعون السيطرة دخلت سبعة جيوش عربية إلى فلسطين، ولم يدخلوا للدفاع عن فلسطين بقدر دخولهم لتحقيق أطماعهم، فدخل الملك عبدالله ليحقق أطماعه فى ضم الضفة الغربية ليحول إمارة شرق الأردن إلى المملكة الأردنية الهاشمية، ودخل الملك فاروق الحرب لأحلام راودته بالخلافة ولغيرته من القيادة التى منحت للملك عبدالله.
انتهت الحرب النهاية الحتمية للعجز وعدم الاستعداد وارتكبت القوات الصهيونية العديد من المذابح وجرائم الحرب. ولعل اعتراف الكاتبين الصهيونيين Benjamin Kesslerو Benny Morris بجريمة الحرب البيولوجية بتلويث آبار المياه العربية ببكتريا التيفويد مثال حى على ذلك.
كان الشعب الفلسطينى هو ضحية هذه الظروف، ولعل هذه السطور توضح للقارئ أن الشعب الفلسطينى كافح وناضل وضحى ضد هذه المؤامرة منذ البداية ولم يقصر ولم يبع كما يروج بعض الشامتين لكنه تحرك وحيدا. لم يحظ الشعب الفلسطينى بدعم قوى عظمى مثل الصهاينة وخذلته بعض الدول العربية التى لم تُقدر الأمر قدر خطورته.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved