الإدارة الذاتية.. الأرجنتين نموذجًا


تامر موافي

آخر تحديث: الأربعاء 14 ديسمبر 2011 - 1:35 م بتوقيت القاهرة

فى مساء 19 ديسمبر 2001 خرج مئات الآلاف إلى شوارع بيونس أيريس و12 مدينة أخرى فى الأرجنتين يقرعون أوانى الطبخ المعدنية الفارغة ويهتفون «حالة الطوارئ.. يبلوها ويشربوا ميتها!!». كان فيرناندو دولاروا رئيس الأرجنتين قد أعلن لتوه عن فرض حالة الطوارئ فى البلاد لمواجهة اتساع نطاق أعمال سلب ونهب بدأت قبلها بخمسة أيام تقريبا فى معظم مدن الأرجنتين، فكان إعلانه لها أشبه بكلمة السر التى أطلقت شرارة انتفاضة شعبية أدت خلال أيام إلى إسقاطه هو وحكومته.

 

لم يكن دولاروا ديكتاتورا جثم على أنفاس بلده لعقود ولم تكن الأرجنتين دولة بوليسية كما أن حجم الفساد فى حكومتها لم يكن شيئا مقارنة بفساد حكومات العالم الثالث مثل مصر فى عهد المخلوع مثلا ولكن هذا كله لم يحل دون أن يطاح بالرئيس وحكومته. أسباب ذلك تعود إلى انتهاج الأرجنتين لحزمة من السياسات الاقتصادية طوال أكثر من عقدين شملت برنامجا للخصخصة وإعادة هيكلة للاقتصاد وانسحاب للدولة من الإنفاق على الخدمات الاجتماعية ومن الإشراف على النشاط الاقتصادى أو حماية حقوق العمال، وأضيف إلى ذلك ربط العملة المحلية بالدولار الأمريكى مما جعل الاقتصاد معتمدا بشكل أساسى على تدفق الاستثمارات من الخارج. كان من نتائج ذلك ازدياد معدلات البطالة وانخفاض القيمة الفعلية للأجور ومع تشبع سوق الاستثمار الداخلى جف نهر الأموال الأجنبية ودخل الاقتصاد الأرجنتينى فى منحنى ركود بدأ منذ عام 1997.

 

وقف دولاروا وحكومته عاجزين فى مواجهة انهيار الاقتصاد بسبب تناقض المصالح فى داخل النخبة الاقتصادية ذاتها وأدى ذلك إلى موجة من عمليات الإفلاس للعديد من المنشآت الإنتاجية والخدمية سحبت القطاع المصرفى إلى حافة الانهيار بسبب الديون المعدومة وكان التدخل الحكومى فى عام 2001 لإنقاذ البنوك متأخرا وكارثيا فقد عمد إلى تجميد الأرصدة البنكية ومنع السحب منها مما ترك الطبقة الوسطى والطبقة العاملة معلقتين فى الفراغ مع وصول البطالة إلى أكثر من 20 % وامتناع عديد من أصحاب الأعمال عن دفع رواتب موظفيهم.

 

●●●

 

الإطاحة بالرئيس وإدارته واستمرار الاحتجاجات الشعبية والعمالية بوجه خاص فاقم من الأزمة الاقتصادية ودفع أصحاب الأعمال إلى محاولة الإفلات من شبح الإفلاس من خلال تصفية أعمالهم وبيع كل الأصول التى يمكن الحجز عليها لصالح دائنيهم. بالنسبة للعمال كان هذا يعنى اختفاء مورد رزقهم فى وقت كان فيه إيجاد عمل بديل أمرا مستحيلا ويعنى أيضا استحالة حصولهم على مستحقاتهم المتأخرة لدى أصحاب الأعمال. فى ظل هذه الظروف نشأت حركة احتلال المصانع وإدارتها ذاتيا كحل طبيعى للإشكالية التى وجد كثير من العمال أنفسهم فى مواجهتها.

 

فى البداية كان احتلال المصانع المهددة بالإغلاق والاعتصام بها يهدف إلى حماية الأصول والماكينات والمواد الخام.. إلخ لمنع صاحب العمل من التصرف بها وكضمان لإمكانية حصولهم على مستحقاتهم لديه. مع مرور الوقت كان الاستمرار فى الاعتصام عبثيا مع انقطاع موارد أرزاق العمال ومن ثم كان الحل هو العمل على تشغيل المصنع وتسويق إنتاجه للمساعدة فى دفع مديونياته ولتوفير عائد يمكن توزيعه كأجور للعمال.

 

واجه العمال فى محاولاتهم لإدارة مصانعهم عقبات عدة كان أولها تقنين أوضاعهم. فى معظم الأحوال كان بالإمكان الحصول على حق بتشغيل المصنع مؤقتا لمدة عامين مثلا دون الحصول على أى حق فى ملكيته. للحصول على التصريح القضائى اللازم لتشغيل المصنع كان على العمال إنشاء تعاونية إنتاجية لتكون الممثل القانونى لهم. هذا الحل كانت له مزاياه وعيوبه أيضا. فهو من ناحية كان شكلا قانونيا معترفا به ولكنه من جانب آخر كان يحتم الإلتزام بهيكل إدارى يمنح رئيس التعاونية وفق القانون سلطات لا تتناسب مع الطابع الديمقراطى للإدارة الذاتية. وفى معظم الأحيان ظل الهيكل القانونى شكليا فقط فى حين استمر العمال فى إدارة الشئون اليومية للعمل فى المصنع بشكل ديمقراطى.

 

بخلاف العقبات القانونية واجه العمال عقبات عملية أكثر صعوبة. فاضطراب أحوال الاقتصاد كانت تعنى أن المصانع بالفعل تعانى من صعوبة فى تسويق منتجاتها أو فى تحقيق عائد يغطى تكاليف الإنتاج وفى كثير من الأحيان اضطر العمال إلى ممارسة نوع من الاستغلال الذاتى بمعنى الاضطرار إلى العمل لساعات طويلة دون راحة وفى مقابل أجر متدن. إضافة إلى ذلك كان كثير من المصانع قد فرغ فعلا من ماكيناته أو بعضها على الأقل والبعض الآخر كانت ماكيناته متهالكة أو تستخدم تكنولوجيا تخطاها الزمن واضطر العمال فى كثير من الأحيان إلى الارتداد بالعملية الإنتاجية إلى نمط شبه حرفى يعتمدون فيه على تقنيات بدائية.

 

على الجانب الآخر أدت بعض المصاعب إلى تطوير تجربة الإدارة الذاتية بشكل أظهر وجهها الاجتماعى كبديل عن نمط الإدارة التقليدى الهادف إلى الربح فقط. فقد احتاج العمال إلى دعم المجتمعات المحيطة بهم فى مراحل نضالهم من أجل الحصول على حق إدارة مصانعهم. كما أنهم احتاجوا إلى بديل عن مستهلكى إنتاجهم التقليديين وبالتالى لجأ كثير منهم إلى تطوير إنتاج مصانعهم للاستجابة إلى احتياجات المجتمع المحيط بها. وفى حالات كثيرة أضاف العمال إلى أنشطة منشآتهم الإنتاجية أنشطة اجتماعية تخدم المجتمع كنوع من رد الجميل للدعم المعنوى والتضامنى الذى وفره لهم هذا المجتمع. هذه الخدمات تنوعت بين المكتبات العامة والمدارس الليلية والنوادى الثقافية والرياضية.. إلخ. فى كل هذه الأمثلة حققت المنشآت المدارة ذاتيا تداخلا مع المجتمع المحيط لا يمكن لسبل الإدارة التقليدية تحقيقه.

 

شملت حركة الإدارة الذاتية مئات المنشآت الإنتاجية والخدمية فى مدن الأرجنتين، تنوعت أنشطتها بين تكنولوجيا المعلومات وبيع التجزئة وقطع غيار السيارات والمدارس وصناعة الزيوت والسيراميك. واستمرت بعض هذه المنشآت فى العمل كتعاونيات مدارة ذاتيا لسنوات فكان عددها فى عام 2007 «163» شركة. وكانت التجربة ملهمة للعمال فى بلدان أخرى كثيرة حول العالم خاصة مع بدأ الأزمة الاقتصادية فى عام 2008 فانتشرت إلى أكثر من إثنى عشر بلدا آخر.

 

●●●

 

فى إطار اللحظة التاريخية الحالية فى مصر والتى تستمر فيها الإضرابات العمالية الساعية إلى استرداد حقوق طال تجاهلها وتقابل بالقمع تارة وبالتسويف أخرى تبدو تجربة الإدارة الذاتية فى الأرجنتين نموذجا ربما تدعو الحاجة إلى الاقتداء به وربما يكون فى صالح حكومة منتخبة قادمة أن تضعه فى اعتبارها كإحدى آليات الخروج من مأزق يبدو واضحا أنه من المستحيل تجنبه.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2025 ShoroukNews. All rights reserved